الموقع الرسمي لدكتور عمرو الليثي
جاء رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، حاملاً رسالة عظيمة متضمنة كل معانى القيم الإنسانية والحضارية. وفى طليعة هذه القيم التسامح. وقد جسّد هذا الخُلُق فى مفاهيم عملية فحوّلها من مجرد قيمة إلى مفهوم عملى لازم حياته فى جميع مراحلها فى حالات الضعف كما فى حالات القوة. وقد دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى إشاعة جو التسامح والسلام بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، فالتسامح يحمل للنفس قدرًا كبيرًا من الارتياح والطمأنينة والرضا عن النفس وحباً للآخر، وأعطى نبينا، صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته العطرة أمثلةً تطبيقيةً عملية فى ممارسة هذه القيمة، يقول رسول الله: «صِلْ مَن قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»، فعل رسول الله ذلك مع الأفراد والجماعات، وفعله مع القبائل والمدن.. فيروى جابر بن عبدالله، رضى الله عنهما، أن رسول الله قاتل محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله بالسيف، فقال: من يمنعك منى؟ قال: «اللهُ». فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله فقال: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى؟ قال: كن كخير آخذ. قال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟ قال: لا، ولكنى أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلَّى سبيله!! قال: فذهب إلى أصحابه قال: قد جئتكم من عند خير الناس. وعن أنس بن مالك قال: «كنت أمشى مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجرانى (عباءة) غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذه جبذة [أى جذبه جذبة قوية] حتى رأيت صفح عنق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جذبته (تركت الجذبة علامة على عنق الرسول)، فقال: يا محمد، أعطنى من مال الله الذى عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء». وعندما نقضت قريش العهد بعد صلح الحديبية ويذهب رسول الله بجيشه العملاق، ويدخل مكة فاتحًا بعد أكثر من عشرين سنة من الاضطهاد والتعذيب له ولأصحابه، ويجتمع القوم الذين لم يُدركوا قيمة العظيم الذى كان يعيش بينهم.. ويتوقع الجميع يومًا داميًا تُعوَّض فيه آلام السنوات السابقة، ويقف المتكبرون من أهل قريش فى ذِلَّةٍ وصَغار أمام رسول الله ينتظرون حُكمًا رادعًا.. يتساءل الرسول العظيم مع تلطفٍ وتواضعٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّى فَاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم. قال: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»، وكان جاره اليهودى يحاول أن يُؤذِيه، صلى الله عليه وسلم، وينتظر الليل والناس جميعاً نيام، حيث كان يأخذ الشوك والقاذورات ويرمى بها عند بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، ولما يستيقظ رسولنا الكريم فيجد هذه القاذورات كان يضحك، صلى الله عليه وسلم، ويعرف أن الفاعل جاره اليهودى، فكان نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، يُزيح القاذورات عن منزله ويُعامله برحمةٍ ورفقٍ ولا يُقابِل إساءته بالإساءة، ولم يتوقَّف اليهودى عن عادته حتى مرض، فظلَّ ملازمًا الفراش يعتصر ألمًا من الحمى حتى كادت توشك بخلاصه. وبينما كان اليهودى بداره سمع صوت الرسول، صلى الله عليه وسلم، يضرب الباب يستأذن فى الدخول، فأذِن له اليهودى فدخل صلوات الله عليه وسلم على جاره اليهودى وتمنّى له الشفاء، فسأل اليهودى الرسول، صلى الله عليه وسلم: وما أدراك يا محمد أنى مريض؟ فضحك الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقال له: «عادتك التى انقطعت»- يقصد نبينا الكريم القاذورات التى يرميها اليهودى أمام بابه- فبكى اليهودى بكاءً حارًا من طيب أخلاق الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وتسامحه، فنطق الشهادتين ودخل فى دين الإسلام. وتتجلَّى سماحة الإسلام فى معاملة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأهل الكتاب، فقد كان صلى الله عليه وسلم يزورهم ويكرمهم ويحنّ إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم. وصان الإسلام لغير المسلمين معابدهم وشعائرهم، وقد شدد النبى، صلى الله عليه وسلم، الوصية بأهل الذمة وتوعد كل مخالف لهذه الوصايا بسخط الله وعذابه، فجاء فى أحاديثه الكريمة: «من آذى ذمياً فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله». «من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة». وقال عليه الصلاة والسلام: «من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة».