الموقع الرسمي لدكتور عمرو الليثي
كان حديث الموت لا يخلو من أى حوار يدور بينى وبين والدى، وحديث الموت فى حياتنا كما سبق كان مرتبطاً بوفاة أصغر أعضاء العائلة أخى الصغير شريف.. لذا فكان والدى رحمه الله فى كل مرة يسافر فيها خارج البلاد كان دائماً يوصينى بوصية.. افعل كذا وكذا.. وأعط كذا كذا.. ولا تنس أن تصل رحمك.. وكان دائما يؤكد علىّ ويقول لى (صل رحمك) فى عماتك وعمامك وخلانك.. وكان دائما يسافر ويعود بالسلامة.. لن أنسى هذا اليوم الذى سافر فيه أبى فى عام 1979 إلى إيطاليا وكانت مدة رحلته شهرا كاملاً.. ولم نكن قد اعتدنا على أن يسافر والدنا مثل هذه المدة.. وكان شريف على قيد الحياة.. وفجأة نادانا أبى أنا وأخى وأعطانا شريط كاسيت وكنا صغارا وطلب منا أن نستمع لهذا الشريط بعد سفره.. فى واقع الأمر اعتقدنا أنه شريط موسيقى أو أغان.. وسرعان ما تبدل الأمر وسافر أبى وشغلت الكاسيت أنا وشريف لنجد المتحدث أبى.. وهو يتحدث لكل منا، يتحدث لى وينصحنى بماذا أفعل فى بقية حياتى.. ويتحدث إلى شريف ويقول له (وبكرة يا شريف إنت حتخف ومرض السكر حيبقى مرض سهل، علاجه زى الإنفلونزا.. إوعى تيأس يا ابنى).. الحقيقة نزل هذا الشريط علىّ وعلى أخى شريف كالصاعقة.. وأخذنا نبكى بحرقة.. كما لو أن والدنا قد توفى.. وحتى الآن لم أعرف لماذا فعل والدى ذلك.. وأصبحنا نداوم أنا وشريف على تشغيل الكاسيت والاستماع لصوت أبى وهو يوصينا. إلى أن عاد بعد شهر كامل.. وأول سؤال سألته له بعد رجوعه للمنزل.. ليه يا بابا عملت فينا كده.. ليه سجلت شريط الكاسيت.. فرد بهدوء.. علشان العمر بإيد الله.. وما حدش عارف إمتى حيموت.. عموماً.. اللى أنا قلته لكم فى الشريط احفظوه وخلوكم دايماً فاكرينه.. وتمر السنوات.. ويبدو أن ما قام به أبى أثار فضول أخى شريف.. ففوجئت به يقوم هو الآخر بتسجيل شريط كاسيت بصوته يحمل رسالة لى ولأبى وأمى.. والغريب أن رسالة شريف وكلماته كانت تكبر سنه.. أتصور أنها كانت رسالة وداع رغم أنه لم يتحدث فيه عن الموت وإنما تحدث عن المرض وهو يقول (أنا زعلان إنى عندى سكر.. أنا زعلان يا بابا ويا ماما ويا عمرو إنكم بتتعذبوا معايا وأنا بآخد الحقن كل يوم)، رحل شريف عن الحياة وبقى شريط كاسيت سجله بصوته ربما لم يكن يقصد ذلك أو ربما شعر بذلك.. وبقى هذا الشريط الذى يحمل صوت أخى ووصيته التى لم يوص بها مباشرة وهى الاهتمام بأطفال مرضى السكر.. فكان يتحدث عن الشيكولاتة التى سوف تظهر فى الأسواق لمرضى السكر.. وكان هو ممنوعاً من أكل الشيكولاتة.. أو دواء الأنسولين الجديد الذى سيطرح فى الأسواق وهو عبارة عن حبة توضع تحت الجلد وتجعله يوقف أخذ الحقن.. كان حلم شريف بسيطا وكبيرا.. كان يحلم ألا يتألم.. ولى مع صديق العمر وقفات أخرى.