عندما كان يتكلم عمى المنتج جمال الليثى عن أصدقائه ورفاقه، خاصة فى المجال الفنى، كان شعور الدفء والحب هو ما يحيط كلامه، فلقد كان رفاقه رفاقا أفاضل وسينمائيين خطّوا صفحات بارزة فى تاريخ السينما المصرية بعراقتها وأصالتها فى عصرها الذهبى، رفاق منهم الأساتذة رمسيس نجيب ومحمد نجيب ومحمد كريم وكمال الشيخ وفطين عبدالوهاب وصلاح أبوسيف، وكما حكى لى الأستاذ جمال الليثى أنه على الرغم من أن صلاح أبوسيف كسينمائى ومخرج كبير حمل لقب «أبو الواقعية» فى السينما المصرية، وارتباطه به كصديق منذ دخوله المجال السينمائى فلم يعمل معه الأستاذ صلاح أبوسيف كمخرج إلا فى فيلمين، أولهما هو «القاهرة 30»، والفيلم الثانى هو «الزوجة الثانية».. «القاهرة 30» كان الأستاذ نجيب محفوظ هو من كتبها كرواية ونشرها تحت عنوان «القاهرة الجديدة»، وكانت الرقابة على السينما فى فترة من الفترات قد أصدرت منعاً لسيناريو معد عنها، لكن صلاح أبوسيف كان مقتنعاً بها وكان يبذل محاولات دؤوبة مع الرقابة على السينما لكى توافق له على إخراجها، وقد استطاع جمال الليثى- وكان رئيس شركة القاهرة للإنتاج السينمائى،
وهى إحدى شركات القطاع السينمائى للدولة- أن يزيل كل العقبات وأن يحصل على التصريح بإنتاج الفيلم من الرقابة.. وكان الأستاذ نجيب محفوظ فى روايته قد وضع يده على انحرافات وزير من الوزراء وحياته السرية وفضائحه واستغلاله لنفوذه ومكانته كوزير، وقد مثّل الدور بتفوق الفارس الراحل «أحمد مظهر» مع مجموعة من ألمع النجوم، وكان الأستاذ صلاح أبوسيف قد حضر أحداث الفيلم فى مطلع الثلاثينيات، واختار له اسم «القاهرة 30»، وهى فترة حكم إسماعيل صدقى باشا، التى ألغى فيها الدستور وألغى مجلس النواب وحكم مسنوداً من القصر والاحتلال الإنجليزى، ونكّل بكل أطياف القوى الوطنية وأسلم البلد إلى حياة الرذيلة والفساد، وكان من الطبيعى أن تقوم ضده الثورات وتحاربه وتندد به، وكان المشهد الأخير من «القاهرة 30» والمنشورات التى تتطاير فوق الرؤوس فى محطة مصر شيئا واقعيا وطبيعيا جدا لكى ينهى به صلاح أبوسيف الفيلم.. وكان صلاح أبوسيف قد أعد المنشورات وطبعها فى مطبعة المعهد العالى للسينما، ثم نقلت إلى مكان التصوير لتنفيذ المشهد ولينهوا تصوير الفيلم، وبدأوا يجهزون للعرض.. وذات يوم، فوجئ الأستاذ جمال الليثى بتليفون من وزير الثقافة وقتها، الأستاذ سليمان حزين، يستدعيه إلى مكتبه على عجل، وما إن ذهب إليه وجلس أمامه حتى سأله بلهجة مفزوعة ووجهه ملىء باللهفة: «إيه حكاية المنشورات اللى بيقولوا إنك طبعتها ووزعتها فى باب الحديد؟؟»، وشرح له أن المنشورات التى يقصدها مطبوعة فى معهد السينما، لكى يصورها الأستاذ صلاح أبوسيف فى مشهد من مشاهد فيلم «القاهرة 30»، وهو فيلم قطاع عام ومصرح به من الرقابة، وعبارات المنشور الذى يتحدث عنه مجازة من الرقابة وتتلاءم مع أحداث القصة التى تجرى أحداثها فى أوائل الثلاثينيات ولا علاقة لها بهذه الفترة، وعرض عليه أن يذهب معه لكى يرى المشهد فى ختام الفيلم، وذهب معه فعلا ثم عادا إلى مكتب وزير الثقافة مرة أخرى ووجده يتصل برقم تليفون معين وسمعه يتحدث إلى الرجل على الطرف الآخر لكى يشرح حكاية المنشورات وطبيعة وجودها فى فيلم «القاهرة 30»، وكما استشف الأستاذ جمال الليثى من الحوار- كما حكى لى- فإن الرجل على الطرف الآخر كان صلاح نصر، مدير المخابرات وقتها.
اختير فيلم «القاهرة 30» ليمثل مصر رسمياً فى مهرجان كارلوفيفارى فى تشيكوسلوفاكيا، ودعوا جمال الليثى وصلاح أبوسيف ليكونا ضيفين على المهرجان، وكان الفيلم محل اهتمام خاص من الدول الاشتراكية التى تدور فى فلك الاتحاد السوفيتى، على اعتبار أنه فيلم يسارى وبطله يعتنق الماركسية. وكسب فيلم «القاهرة 30» شعبية كبيرة فى أروقة المهرجان، وبدأوا يتلقون عروضا لتوزيعه فى أوروبا الشرقية من خلال موزع مصرى مقيم هناك، وفى ختام ليلة المهرجان شهد منتجع «كارولفيفارى» حفل استقبال ضخما للوفود التى مثلت بلادها فى المهرجان، ولم يكادوا يستقرون فى الحفل حتى فوجئوا بالوفد الروسى يدخل وقد اصطحب رائد الفضاء الشهير يورى جاجرين وهو يتأبط ذراع زميلته فالنتينا، أول امرأة صعدت إلى الفضاء، وكان جمال الليثى قد تعرف على يورى جاجرين من قبل عندما استضافته مصر وجاء يزورها والتقى القادة جمال عبدالناصر وصلاح سالم وكمال الدين حسين.