الموقع الرسمي لدكتور عمرو الليثي
الإفك هو أفظع أنواع الكذب، لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعاً معاكساً لما لم يحدث، وقد تعرضت أُم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- لذلك فى الحادثة التى أطلق القرآن الكريم عليها الإفك، وكانت تلك الحادثة من أشد وأصعب ما واجهت أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- فى حياتها، ومن أقسى ما تعرض له بيت النبوة، إلى أن تنزلت آيات الله- تعالى- لتبرئها مما حاول المنافقون أن يصموها به..
فقد خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فى جيش من المسلمين فى المدينة إلى ديار بنى المصطلق لتأديبهم ومعاقبتهم على ما كان منهم من غدر ونفاق، وكان سهم الخروج من نصيب عائشة من بين أزواجه، وحين تم النصر للمسلمين على بنى المصطلق وأثناء الاستعداد للعودة خرجت السيدة عائشة- رضى الله عنها- لقضاء حاجة فى الخلاء بعيدًا عن معسكر المسلمين، وابتعدت كثيرًا، وحين رحل المسلمون رُفع هودجها من مكانه ظنًا من قائده أنها بداخله، ومضى المسلمون فى طريقهم إلى المدينة. عادت عائشة مما ذهبت إليه وافتقدت عقدًا كانت تزين به جيدها فلم تجده، فرجعت سريعًا إلى حيث كانت ولملمت حبات العقد المتناثرة وعادت سريعاً، وحين بلغت طرف المعسكر ومكان الهودج لم تجد أثرًا لبشر فارتاعت وجزعت وألمّ بها خوف شديد، ثم لبثت فى مكانها لا تدرى كيف تتصرف وماذا تفعل! وكان من عادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يرسل إثر كل غزوة رجلاً من أصحابه اسمه صفوان بن المعطل يستدرك ما فاته المسلمون عند رحيلهم، وفوجئت عائشة- رضى الله عنها- بخيال فارس يأتى حيث تقف فأرخت حجابها وعندما لمحها صفوان غض بصره وقال فى دهشة وعجب: ظعينة رسول الله؟!
ما خلفك رحمك الله؟! وما الذى أخرجك؟! ثم نزل عن بعيره وتأخر حتى ركبت، ثم تقدم وأمسك بالمقود، وشُغل بال رسول الله على عائشة حتى عادت واطمأن عليها وسمع بعذرها وصدّقها بعد أن افتقدها فلم يجدها واهتم لأمرها. وكان عندما أطل موكب صفوان وعائشة على مداخل المدينة المنورة ولمحه ابن سلول المنافق الذى كان جالسًا مع بضعة نفر من أتباعه ووجد المادة التى يتسلى بها والسم الذى ينفث لينفس عن حقده وحسده لرسول الله وعلى المسلمين، فقال: أيها الناس، ظعينة نبيكم عادت فى ركاب رجل والله ما نجت منه ولا نجا منها، وسرت أكذوبة ابن سلول بين الناس وتناقلتها الألسنة تصريحًا وتلميحًا. فتألم الرسول عندما وصل إليه ما يتهامس به الناس، وعاش فترة من الحيرة والقلق والهم الشديد وكان يدعو الله دائماً أن يبرأها من هذا الفعل، ولم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون فى حقها، لكن تغير لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يعد يداعبها كعادته، وكان يدخل عليها فيقول: «كيف تيكم؟»، وقد لاحظت عائشة هذا التغير لكن لا تعرف له سببا.. إلى أن تصادف أن سارت هى وأم مِسطح أحد هؤلاء المنافقين، فعثرت فقالت: تعس مِسطح، فنهرتها عائشة.. كيف تدعو على ابنها؟ فقالت: إنك لا تدرين ما يقول.. عندها ذهبت السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عما يقوله الناس فأخبرتها. وذهب الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- ليتحدث مع السيدة عائشة فى بيت أبيها، وأخبرها إن كان يا عائشة ما حدث صحيح فاستغفرى ربك وتوبى إليه، فنظرت السيدة عائشة فى عيون أبيها أبى بكر وأمها وقالت لهما: ألا تجيبان على الرسول- صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها أبوها: والله ما ندرى ما نقول، فأخبرتهم السيدة عائشة: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله يعلم أنى بريئة، ووالله ما أقول أكثر مما قال أبو يوسف: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ».
هنا بعث الله الوحى على الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليخبره بأن السيدة عائشة بريئة من هذه الحادثة الكاذبة، وأنزل الله فى هذا الموقف قرآناً، حيث قال تعالى فى سورة النور: «إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، وهنا انزاح هَمّ الرسول عن قلبه وابتسم وقال لها أبوبكر: قومى فاشكرى رسول الله، فقالت: بل أشكر الله الذى برأنى.. وجاءت هذه الحادثة درساً عملياً للمسلمين إلى يوم الدين، فما يزيد الله الذين اهتدوا إلا هدىً وإيماناً، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً.