الموقع الرسمي لدكتور عمرو الليثي
تحدثنا فى المقال السابق عن حكايتى مع الأستاذ العظيم نجيب محفوظ، والذى مرت ذكرى وفاته من أيام، وزيارتى الأخيرة له ورؤيتى له لآخر مرة بالمستشفى، ويومها استقبلنا أستاذنا نجيب محفوظ بترحاب شديد وهو يقول لوالدى: «أخبار المسطول والقنبلة إيه؟»، وكان يقصد قصة المسطول والقنبلة التى حصلوا منه عليها فى جهاز السينما لإنتاجها فيلماً، وهو يستفسر عما تم من خطوات الإنتاج، رد عليه والدى أن الأستاذ مصطفى محرم انتهى من كتابة السيناريو والحوار، وأن الفنان الكبير عادل إمام مرشح لبطولة الفيلم، وأنه يقرأ السيناريو والحوار الآن، ورد الأستاذ نجيب محفوظ بفرحة: «عادل إمام ممثل عظيم»، وسأل: من مخرج الفيلم؟ وعندما قال له والدى إنه سعيد مرزوق رد فرحاً: «اللى عمل لنا فيلم المذنبون.. هايل»، وكانت هذه الزيارة فى وجود السيدة الجليلة زوجته، وصمم كاتبنا الكبير على أن نجلس معه بعض الوقت قضيناه فى استعادة ذكريات الأفلام التى شرف والدى بكتابة السيناريو والحوار لها والمأخوذة عن قصصه، وكلما شرعنا فى الانصراف كان يلح علينا أن نجلس معه، ولم تكن آثار المرض بادية على الأستاذ نجيب محفوظ، فقد كان يبدو أنه بصحة جيدة، وعندما وقفنا لننصرف قلنا لأستاذ نجيب محفوظ إننا سنمر عليه بعد يومين فرد فورا: «ما تتعبوش نفسكم أنا خارج بكرة من المستشفى خلاص بقيت كويس»، ولم يخرج أستاذنا الكبير نجيب محفوظ من المستشفى إلا جثماناً ملفوفاً فى علم مصر، ولم أصدق نفسى وقتها أن نجيب محفوظ مات بهذه البساطة، صحيح أن الأعمار بيد الله، وصحيح أنه قد تعدى سن التسعين عاما.
ولكن الحالة الصحية الممتازة التى تركناه عليها ونحن نغادر حجرته بالمستشفى لم تكن تجرفه إلى الموت سبحان الله ولله الدوام، وأذكر أن الإعلام المصرى والإعلام العربى أعطيا وفاة كاتبنا الكبير نجيب محفوظ حقها من التقدير والإجلال والتعظيم، ولأن والدى المنتج والسيناريست الكبير ممدوح الليثى، وكما ذكرنا فى مقالنا السابق أنه كتب السيناريو والحوار لسبعة أفلام من أهم أفلام السينما المصرية المأخوذة عن قصص الكاتب الكبير نجيب محفوظ، وأنتج له عشرات الأفلام والمسلسلات، فقد كان صاحب حظ كبير فى استضافته فى العديد من القنوات، وقد حاول قدر طاقته أن يكون حواره فى كل قناة يتناول موضوعا مختلفا عن كاتبنا الكبير، وفى النهاية شعر بإرهاق شديد وخشى أن تتكرر عباراته فتوقف عن الحوار واعتذر لكاميرات كثيرة عن الحديث، ورصدت الكاميرات وقتها مشاعر المواطنين فى كل مكان، فكل مصر كانت تودع كاتبنا الكبير ابن مصر البار نجيب محفوظ، فكانت هناك الجنازة الشعبية بمسجد سيدنا الحسين وجنازة رسمية بمسجد آل رشدان بعد صلاة الظهر، وأخرى فى مدافن أكتوبر وأخرى بالحامدية الشاذلية، وأذكر أننا بعد وفاته كنا فى اجتماعنا الدورى أسبوعياً كل يوم جمعة بصحبة الكاتب الكبير على أبوشادى والفنان الكبير عادل إمام والإعلامى الصديق وائل الإبراشى والكاتب الصحفى الكبير عمرو خفاجة، وهو ما كان يطلق عليه مجلس الشر، وشاءت الظروف أن نجتمع ثانى يوم وفاته، وتحدثنا عن الجنازات التى أقيمت لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ، واتفقنا أن كل الجنازات كانت فقيرة لا تليق بكاتبنا الكبير، فلم يشترك فيها لا جموع الكتاب أو الأدباء أو المثقفين أو جموع الفنانين، ففى جنازة آل رشدان لم أجد واحدا من آلاف الفنانين الذين جسدوا شخصيات نجيب محفوظ فى السينما أو المسرح أو التليفزيون، بخلاف الفنان السيد راضى والفنان أشرف زكى، وقد حضرا بصفتيهما النقابيتين، وأذكر أنه فى مساء يوم الجمعة، حيث أقيم العزاء بجامع الحامدية الشاذلية، أخلى رجال المرور الشوارع من السيارات ووقف عشرات لواءات الشرطة أمام السرادق يحيطون به من كل جانب وعشرات الكاميرات تتأهب للهجوم على كل شخصية معروفة تقترب من السرادق لتجرى معها حوارات، بينما السرادق من الداخل غير ممتلئ بشكل لا يليق بمكانة نجيب محفوظ، وأذكر أنه فى السرادق تقابل والدى ممدوح الليثى مع الدكتور كمال أبوالمجد، وزير الإعلام الأسبق، وبادره أمام الدكتور يحيى الجمل متسائلا: هل هذا يليق بكاتبنا الكبير نجيب محفوظ، أين المعزون؟!!
وقد كان هذا يرجع إلى تدخل السلطة والدولة فى تحديد أماكن الجنازات ومكان ليلة المأتم، فذلك يعطى انطباعا بزحام كاذب يخشاه الناس خافوا من المرمطة فى الجنازة الرسمية والحضور قبلها بساعات والانصراف بعدها بساعات تفتيش والتحفظ على التليفونات المحمولة وإجراءات أمنية صعبة ومشاكل فى العثور على سياراتهم بعد الجنازة وضربة الشمس.. و.. و.. فيفضل الناس البقاء فى بيوتهم وإرسال برقيات عزاء.
رحم الله أستاذنا نجيب محفوظ، ووالدى ممدوح الليثى، الذى كان يعتبر الأستاذ نجيب محفوظ كما نعتبره جميعاً أستاذنا ومعلمنا.