اعتدت أنا ووالدتى- منحها الله العمر والصحة- على زيارة المقابر بشكل دائم ومستمر سواء لزيارة شقيقى المرحوم شريف أو لزيارة والدى، رحمهما الله، وفى آخر زيارة إلى المقبرة لفت نظر والدتى أن المقبرة ليست مستوية وأنه يبدو أن هناك مشكلة ما فى أرضية المقبرة التى انخفضت عن الأرض بشكل واضح وسألتنى فأجبتها أنه يبدو أن مياه الأمطار قد أثرت على الأرض وجعلت هناك هبوطًا فى سقف المقبرة وعليه استعنا بمهندس لبحث الأمر وكان هذا الانخفاض يقع فوق غرفة النساء والمعروف لدى الجميع أن المقابر المصرية نوعان إما لحدًا وإما مقبرة كالغرف توضع فيها الجثامين عند الوفاة، ومقبرتنا من هذا النوع.
طلبنا المهندس ليأتى فطلب المهندس أن يفتح القبر الخاص بالنساء حتى يشاهد الخلل الذى أدى إلى هذا الهبوط، وبالفعل دخل غرفة النساء التى تقع أمام غرفة الرجال التى تم دفن والدى وشقيقى فيها منذ أعوام، وجد المهندس أن غرفة النساء من أسفل قد انهارت بالكامل وعليه أن يقوم بإعادة بنائها مرة أخرى وبالفعل استغرقت هذه العملية أكثر من أسبوعين تم فيها ترميم غرفة النساء بالكامل وإصلاحها وهى خالية من أى جثامين وتم رفعها مرة أخرى وإعادة تنكيسها وأصبحت سليمة تمامًا وفجأة وأثناء قيام المهندس بتسليم غرفة النساء بعد إصلاحها وجدته يقول لى «يا دكتور عمرو عايزين نفتح غرفة الرجال فنظرت إليه بترقب وهدوء شديد انتابنى وقلت له (عاوز تفتحها ليه؟)!! فأجابنى بسرعة بالغة «أتصور أن ما حدث فى غرفة النساء والانهيار الذى وقع ممكن أن يكون قد وقع أيضًا فى غرفة الرجال فعلينا أن نقوم بفتحها حتى نتأكد أنها لم تصب بأى أذى وإذا كان هناك أى انهيار قد وقع بها فسنقوم بنقل الجثامين الموجودة بها إلى غرفة النساء ونقوم بإصلاحها».
لا أدرى كيف أصف لكم هذه اللحظات الصعبة التى طلب منى فيها المهندس فتح الغرفة المدفون فيها والدى وشقيقى وأشعر أننى قد استغرقت زمنًا طويلًا حتى أجيب بالموافقة، فقلت له بعد لحظات صمت طويلة وأنا أقف فى غرفة النساء فى المقبرة «حاضر يا باشمهندس بس مش النهارده، خلينا نتكلم كمان يومين وأنا آجى وأفتح الغرفة بنفسى ونشوف إذا فيها حاجة نعملها».
عدت إلى منزلى وطول الطريق أخذت أفكر فى هذه اللحظة التى يبدو أنها قد اقتربت بالنسبة لى فى أن أقوم بفتح المقبرة لأول مرة بعد دفن والدى فيها منذ أكثر من عشرة أعوام، عُدت إلى أمى وأبلغتها بما دار فقالت لى إنه يجب أن نقوم فعلًا بالتأكد من سلامة الغرفة لكن يجب ألا تكون أنت حاضرًا فى هذه اللحظة، رددت عليها بتلقائية «لا.. أنا هاكون موجود.. أنا اللى هافتح الغرفة» نظرت أمى إلىّ كما لو أنها تريد أن تمنعنى لكنها لم تستطع.
تركتُ أمى وقمت بالاتصال بالمهندس وقلت له «يا باشمهندس نتقابل يوم السبت بعد صلاة الظهر فى المقبرة عشان نفتح مقبرة أبويا» كان يومًا من أصعب الأيام التى مرت علىّ كأننى ذاهب لأقوم بدفن أبى لأول مرة، استرجعت شريطًا طويلًا من الذكريات منذ يوم وفاته ثم الصلاة عليه ثم نقل جثمانه ثم قيامى بدفنه، وأتذكر هذه اللحظة التى كان قد أوصانى فيها وطلب منى أن أقوم بدفنه فى حضن أخى شريف، كل هذه الكلمات واللحظات مرت علىّ مثل الشريط السينمائى وأنا فى طريقى للمقابر لكى أقوم بفتح مقبرة والدى وكل ما أتمناه وأدعو الله به أن تكون المقبرة سليمة حتى لا نضطر إلى نقل الجثامين إلى غرفة أخرى وإصلاح هذه الغرفة.
ذهبت إلى هناك ونزلت إلى القبر ومعى العامل الذى قام بتكسير الجدار الذى يفصل بين غرفة الرجال وردهة المقبرة، وبالفعل بدأ العامل بتكسير الحجارة، وكلما سقط حجر تنكشف طاقة من غرفة قبر والدى، وتسقط طوبة خلف طوبة لتنكشف الغرفة أمامى لأجد أمامى جثمان والدى مُسجى كما هو وأجد أيضًا جثمان أخى برفقته ملاصقًا له، لم أنتبه للغرفة وإذا كان قد أصابها سوء ولكنى استيقظت على لحظة والعامل يقول لى «الأوضة تمام يا دكتور.. مفيش فيها حاجة الحمد لله» لكننى فى هذه اللحظات كل ما جاء فى بالى أن أنظر إليه هو وشقيقى ومر علىّ شريط ذكريات طويلة تربطنى بوالدى وحياتى معه والذى كنت أقول دائمًا إنه صديق العمر، وشريط ذكريات يربطنى مع شقيقى الذى كان أول صديق عمر فى حياتى.
مرت لحظات وأنا أقف أدعو لهما فى حدث جلل أتصور أنه من أصعب اللحظات التى مرت علىّ فى حياتى، بعد لحظات سألنى العامل: «فى حد تانى مدفون جنبه تقريبًا الجثمانين ملاصقين لبعض؟!» قلت له «الأب وابنه جنب بعضهم ربنا يجمعنا معهم على خير» وقلت للمهندس: أقفل يا باشمهندس العين؟.. الحمد لله سليمة. خرجت من القبر وصعدت لأعلى وأنا أشعر بقوة هذا الموقف وصعوبته على وانتابتنى حالة صمت طويلة وعدت إلى المنزل فقابلتنى أمى وسألتنى «إيه الأخبار؟»، فقلت لها «الحمد لله هما الاتنين كويسين».
رحم الله والدى ممدوح الليثى ورحم الله شقيقى شريف الليثى وجمعنى معهما على خير إن شاء الله. اللهم ارحمهما وارحم جميع أمواتنا. اللهم آمين.