كلب الست حفيظة وعــريس
بعـــد التسعيــــــــن
من مجموعة حكايات اسكندرانية لصلاح ابوشنب
تهامس النسوة فى العمارة والشباب فى أزقة الحارة حول نية جارهم الحاج الزواج مرة أخرى ، وهم بين مصدق ومكذب . جاء بعد أن تعدى التسعين من عمره يتأبط ذراع زوجته الجديدة ويصعد بها الى الطابق السادس من العمارة على قدميه ، فاق الشباب بطربوشة الاحمر اللامع ، سمينة جدا تلك الزوجة ذات العينين الواسعتين المكتحلتين ، بينما هو نحيف ، ابيض الوجه أزرق العينين طويل القامه . اشترطت عليه قبل العقد أن يعيش ابنها الوحيد معهما ، فقبل ، سريعا ما نشبت الخلافات بسبب الولد ، الذى كانت امه مهتمه به اكثر من اهتمامها بالزوج الجديد فأصبح لا يطيق وجوده . ذهب الابن ليعيش مع جدته لامه ، تلك العجوزا التى انحنى ظهرها ، كانت تحبه حبا جما . بكت الأم على فراق وحيد ها وضنت على زوجها الجديد بما يريد ، ويوما بعد يوم اصبحت حياتهما صياح يسمعه الجيران فى كل مساء وصباح ، حتى تمنى كل منهما الموت لشريك حياته ، كانت تعيره لأن عينيه زرقاوتين ، فتقول له : يانبته فرنسى ، ولكونها من سكان بحرى ، فكان يحلو له ان يعيرها بقوله يا ماء مالح ووجه كالح وكلام جارح ، فترد : يا من ليس لك ونيس ولا وريث غدا ترحل وينتهى الحديث ، فيقول : ما كان للعيد الكبير أن يأتى قبل الصغير ، ولا قبل الملك الأمير ! كم غسّلت وكفنـّت تلك الأيادى أُناسا ظنوا أن رحيلهم عن الدنيا عسير ! فترد عليه قائلة : عتبى على الزمان الذى الى البخيل الجأنى فأورثنى الضنا حزنا على حزنى . كان سكان العمارة يستمعون الى ذاك الشاعرالعجوز الذى لا يقرأ ولا يكتب وتلك المرأة الأمية كيف يصنعون الكلمات بتلك السهولة وفى وقت الغضب بالذات ؟ ، كان يحلو للجميع الانصات سرا من خلف النوافذ الى مشاجراتهم ، وخاصة النوافذ المطلة على المناور . كان يتميز بنشاط ملحوظ يحسده عليه الشباب ، يهبط درج العمارة المكونة من ستة طوابق كل يوم خمس مرات لكونه مسؤلا عن رفع الأذآن عند كل صلاة فى المسجد المجاور . كانت الست حفيظة تنتهز فرصة نزول الشيخ لصلاة العصر فتستأذنه فى الصعود الى سطوح العمارة لتشميس ساقيها اللتان لم تقويا على حمل ذاك الكم الهائل من اللحم ، وهناك تأخذ فى البكاء على فراق وحيدها ، والنسوة من حولها يبكون لبكائها ، وتقول العين تبكى من تلقاء نفسها لحال عزيز ذله الزمان . كانت حفيظه اجمل بنات زمانها وحيدة أمها وأبيها تزوجت من اغنى رجل فى الحى ، بعد قصة حب كانت حديث الناس . ظلت عشرين عاما دون أن تنجب ، تزوج عليها بأخرى قبيحة ، سوداء كالليل البهيم ، لكنها فصيحة اللسان تعرف كيف تجذب الرجال ، وقع فى غرامها أملا فى أن ينجب ولدا . وجدت الام ان ابنتها على وشك الضياع وان زوجها سوف يطلقها ، دارت على كل الناس وكل المشايخ وكل الاطباء ، انفقت كل مالها لعلاج ابنتها ، لكنها فشلت . تزوج الرجل بالاخرى ، وظل الى جانبها وترك حفيظة فى بيتها وحيدة . أمرأة من الارياف زارتهم فجأة ، علمت بقصة حفيظة ، فقالت لامها أن شاء الله سيكون فك عقدتها على يدى ! صنعت المرأة وليمة ودعت اليها حفيظة وأمها ، وضعت أمام حفيظة سلطانيه شوربة بها أرنب صغير مسلوق ، لم تذق حفيظه طمعا ألـّذ منه من قبل ، طلبت منها أن تعود الى بيتها فتتجمل لزوجها على أحسن ما تصنع الزوجه لزوجها ففعلت . لم يمر الشهر حتى كانت حاملا ووضعت وليدها الوحيد طفل جميل ما رأت مثله العين ! ما أن حملت حفيظة حتى ثاب الزوج الى رشده وطلق الثانيه . ولكن القدر لم يمهل الاب طويلا ومات والطفل لم يتجاوز عامه الاول ، استولى اشقاؤه على تركته عنوه ،باعوا محلاته ،أخذوا أمواله ، ظنوا ان اخاهم قد مات مسموما ، وتوزعت التهمه فيما بين الزوجتين . لم تجد حفيظة مكانا يأويها وابنها سوى بيت أمها العجوز . قبلت حفيظة تلك الزيجة مرغمة كى تجد من ينفق عليها وعلى وحيدها الذى خرجت به من الدنيا ، لكن الزوج الجديد نغص عليها حياتها وطرد وحيدها ، فلما ماتت جدته لامه لم يجد مكانا يأوى اليه سوى ثكنات الجيش ، فتطوع وكان من أوائل شهداء حرب رمضان. قبل أن تموت الجدة قالت لابنتها أن الذى كان فى سلطانيه الشوربة هو جرو صغير وليس أرنبا ، صعقت حفيظة وكاد يغمى عليها . حزنت حفيظة على فلذة كبدها وظلت تبكى حتى ماتت قهرا عليه وحملها العجوز الى مثواها الاخير وصدق حسّه عندما كان يقول لها أن العيد الكبير لا يأتى مطلقا قبل الصغير .