العودة   الموقع الرسمي للاعلامي الدكتور عمرو الليثي > الأقسام العامة > المنتدى الإسلامى
إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-07-2011, 08:37 PM
الصورة الرمزية محمد رجب الصفناوي
محمد رجب الصفناوي محمد رجب الصفناوي غير متواجد حالياً
عضو
 


إرسال رسالة عبر مراسل Yahoo إلى محمد رجب الصفناوي
Smile الدعوة إلى الله حب جزء أول

بسم الله الرجمن الرحيم

الدعوة إلى الله حب
الجزء الأول


مقدمة
[align=justify]
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
لم تزل الأخوة الإيمانية مضرب المثل في الأثر والتأثير، والخدمة والتضحية والإيثار، ولقد كان الإخاء الذي أوجده الإسلام قمة القمم، وكان ذروة ما تمثل به هذا الإخاء ما رأيناه في الجيل الذي عايش رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربى على يديه، وفي كل جيل يقدم الإسلام نماذج.
وقد جعل الإسلام الإخاء على ضربين: الإخاء العام والإخاء الخاص، وجعل لكلٍّ من الضربين آدابه وحقوقه، فمن آداب الإخاء العام إخلاصُ النصيحة ورد السلام، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، والقيام بحقوق الحياة والوفاة ...
ومن آداب الإخاء الخاص زيادةً على ما قدمناه: الزيارة، والمحبة، والبذل، والإيثار، والمسارعة لقضاء الحاجات، وذكر الأخ بالجميل والذبُّ عن عرضه إذا غاب، وكتمانُ أسراره، وعدم مماراته، والعفو عن زلاّته، والدعاء له في حياته وبعد مماته، والوفاء له، والإخلاص لعهده، وترك التكلف والتكليف معه إلى غير ذلك من آداب وحقوق.
وإذا كان كل خير جماعي ينبثق عن عمق الإخاء الإسلامي فقد سمّى الأستاذ البنا الجماعة التي أقامها لإحياء الإسلام وتجديد حيوية أهله "الإخوان المسلمون" وكان ذلك إشارة إلى أن نقطة البداية في العمل الإسلامي: الإخاء على أساس الإسلام.
لقد حاول الأستاذ البنا إحياء كلا الضربين من الإخاء: الإخاء العام والإخاء الخاص.
فظهر كأثرٍ عن ذلك سلوك عطر، وعلاقات إسلامية حميمة، وود سابغ، ورحمة شاملة، وعبّر عن ذلك أصحاب ذلك بأدبيات اجتمع فيها برد اليقين وحرارة الإخلاص.
والأخ عباس السيسي ممن عايش الأستاذ البنا، ونهل من معينه العذب، فتجسدت فيه معاني هذه الدعوة في صفاء ورواء، ومن أعلى ما تجسد فيه خلق الإخاء فهو صافي المودة، ثر العطاء حيثما توجه نشر من عبير روحه الحبّ، فلا يكاد يجتمع مع أخٍ حتى يشعل في قلبه نور الإخاء في الله حارّاً متوقداً منيراً لأنه هو كذلك، فتراه يغرف منه الصغير ويرتشف منه الكبير، وهو بطبيعته شفاف النفس حساس الوجدان مع تأمل عميق، وفراسة صادقة، وفطرة صافية، وقدرة كبيرة على أن يحيط الكبار والصغار بعطفه، وأن يتجاوز عن الأخطاء، ويغض الطرف عن الزلات، ويتحمل في الله المصيبات، مما جعل الكثيرين من شبابنا يتعلقون به بمجرد أن يعرفوه، لأنهم يجدون عنده حباً بلا مصلحة، وأبوةً بلا مطالب شخصية، وأخوة تتقارب في أجوائها فوارق السن والقدر بسبب من تواضع لا يعرف إلا الحدود الشرعية.
ولذلك فكثيراً ما يراسله إخوانه الشباب، وهو حريص أن يجيب على كل رسالة، ولو أن رسائله وإجاباته ورسائل المرسلين إليه جُمِعتْ في مجلدٍ لكان ذلك برهاناً على أن الإخاء في الله يعطي أهله سعادة لا تعدلها سعادة.
وقد رأى أن يستخرج من بعض رسائله عبارات تصلح لأن يخاطب بها كل مسلم ليحرك في قلبه عواطف الإخاء في الله لتؤدي ثمارها في هذه الأرض، فكانت هذه الرسالة التي يتوجه بها إلى كل قلب.
وقد أراد بذلك أن يبثّ عواطفه للمسلمين جميعاً تعويضاً عن واجبٍ يتمناه وهو أن يراسل كل مسلم على حدة، فكانت هذه الرسالة هي البديل وهي العوض.
كما أنها في الوقت نفسه تذكير للمسلمين جميعاً ان يحققوا الإخاء العام ولمن استجاب أن يحقق الإخاء الخاص.
وهي تذكير لمن فَتَرتْ عنده حيوية الإخاء أن يجددها، ولمن نسيها أن يتذكرها، فبدون إخاء عام وخاص لا تقوم حياة إسلامية راشدة أو رشيدة.
ولقد أعطاني الأخ الشيخ عباس شرف التقديم لهذه الرسالة، وإنه لمن أعظم الشرف الذي أُسرُّ به وأرتاح إليه فجزاه الله خيراً.

رمضان المبارك 1403 هـ.
تموز (يوليو) 1983 م.
سعيد حوّى.


الرسالة الأولى
أي أخي في الله:

سلام الله عليك ورحمته وبركاته، الناس يقولونها عادة، ونحن نقولها عبادة، نقولها ونحن نستشعر المعنى الجليل، سلام الله عليك أيها الحبيب، ورحمته ... وبركاته.
كأني أقف في محراب صلاة في دعاء رقيق صادق يحمل الحب والود، فأقول لك وأنا في قمة الإخلاص والوفاء لك، سلام الله عليك ورحمته وبركاته، ودعاء تام، أدعو لك بالسلام والرحمة والبركة، من الله سبحانه وتعالى، إنه دعاء من قلب أحبّكَ دون أن يراك، وأحبُّ الناس إلى نفسي من أراهم بقلبي، والقلب مستودعُ الرحمات والحب والحياة، وهو الذي يجعل الإنسان يتميز بالخير والحق والذوق والجمال والحياة، وهذه أول وصايايَ لك، أن تكون تجسيداً للخير والحق والذوق والحياء والجمال. الحياء له سلطانٌ ساحر على القلوب، والجمال له سلطان ساحر على العقول، والجمال الذي أعنيه هو وضوح بهاء الروح على نضارة الوجه "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" ، فإذا رأيت أصحاب ذلك هداك حبهم إلى معالم الحق والنور " نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم" ، "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" هذا هو الجمال الحق، أما الحياء فهو الجمال الحيّ المشرق الناطق الذي يجذب القلوب والنفوس بل يطوعها، وصدق رسول الله t "الحياء خير كله" و " لكلِّ دينٍ خُلُق وخلقُ هذا الدينِ الحياءُ ".
والإنسان الذي يُعطي هذا الخير يؤمل فيه ويرتقب منه. والذين يملكون تلك المواهب عليهم أن يكونوا شموعاً للناس ودعاة بما وهبهم الله تعالى من حسن الخلق يقفون على رأس طريق الرحمن منادين بكلمة الله " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".




أي أخي:

هذا العالم يحتاج إلى قلب وعاطفة ومشاعر، فَكُن القلبَ لهذا العالم، وأحيه بعاطفتك ومشاعرك، إن الإنسان الذي يعيش بلا قلب ولا عاطفة ولا مشاعر قد تكون له فلسفةُ أو نظرة أو تجربة لكن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بمثل هذه المقومات النفسية والروحية، وإلا لكان الإنسان الآلي والكمبيوتر يغطيان مهمة الإنسان.
إنّ الإنسان قلب وروح وعاطفة، وإذا قلت العاطفة في معرض المدح فانها ليست عاطفة مطلقة بلا قيود ولا حدود، إنّ العاطفة ببض وحياة وهي مقيدة بأصول شرعية، والذين يتعاملون بالعواطف الجاهلية لا يقفون على قدم المساواة مع العواطف النظيفة العفيفة التي هي سر حياة المسلم وسر وجوده الروحي.
ولقد كان إمامنا رحمه الله يدرك هذه الحقيقة حين قال: (أيها الإخوان ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأضيئوا نظراتِ العقول بلهبِ العواطف).
إن عاطفة الأخ المسلم مقيدة بل متحصنة بتقوى الله عز وجل، وليس من المعقول أن نحاصرها أو نتجاهلها أو نقتلها لأنها فطرة. ولكن جاء الإسلام العظيم ليفتح لها منافذَ الطهرِ والعفاف والنقاء وكانت أعظمُ هذه النوافذ هذا الخطاب (إني أحبك في الله تعالى) عاطفة الأخوة والحب في الله أعظم زادٍ أمامَ هذا الطغيان المادي، وهي الغذاء لذلك الجوع العاطفي الذي ينزل بكثير من القلوب.
كنت كثيراً ما أقبِّلُ أطفالي الصغار في سن الرضاعة، وكنت أميل إلى أن أتشممهم وأجد في ذلك راحةً وسعادة لنفسي، ولكني كنت أظن أن هذا التصرف فيه شيء من الإفراط، وذات يوم كنت أقرأ في سيرة رسولنا العظيم t في غزوة مؤتة، حين ذهب إلى بيت جعفر بن أبي طالب ليتفقد أولاد جعفر بعد أن أعلَمَهُ الله تعالى بنبأ استشهاده، يقول الراوي فأخذَ رسول الله t يقبل أطفال جعفر رضي الله عنه " ويتشممهم" وحين قرأت تلك الكلمة لم أتمالك من البكاء.
أيها المسلم العظيم: عَمِّرْ هذا العالَمَ بفيض حنانك، وأشعر كل القلوب بمزيد رحمتك وخُصّ إخوانك المسلمين بأعلى درجة من حرارة المحبة وأشعرهم بأنك تحبهم فذلك هو الاكسير لعلاج ألف مشكلة ومشكلة إن كثيراً من مشكلات العالم سببها خمود العاطفة أو انحرافها.

أي أخي:

إن الذين يحملون دعوة الله تعالى إلى الناس لا بد أن يكونوا قمة النظافة، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، ومن هنا فأنت لا تقرأ القرآن إلا وأنت طاهر، والدعوة التي آمُلك لها وأنشدك لمستقبلها في حاجة إلى نظافة قلبك، ليعطي ويأخذ، ليصبر ويصابر، ليصفح ويسامح، لينزل إلى مستوى الضعفاء، وليرتفع بهم إلى مستوى الأقوياء، يقترب ببطء حتى لا يُنفر، لا يتكلم في حق الآخرين إلا بخير لأنه ينشدهم للدعوة " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كإنه ولي حميم" كل ذلك مفتاحه نظافة القلب فهي سر النجاح، إننا عما قريب راحلون، ونحب أن نُودّعَ الحياة وقد أَوْدَعْنَا هذه الدعوة عند شباب نظيف القلب، ويعلم الله أننا إذا أحببنا هذه الدنيا فانما نحبها من أجل ذلك " كل نفس ذائقة الموت" ، " وما تدري نفس ماذا تكسب غذاً وما تدري نفس بأي أرض تموت".
فحقق الأمل فيك بأن يكون قلبك لا غلّ فيه ولا حقد، ولا حسد فيه ولا كبر، طاهر كطهارة ماء الغمام، نظيف كنظافة الثلج أول ما يستقر في الأرض.



أي أخي:

أرسلتَ تقول لي (والله يا أخي لو تعلمُ حالتي حين قرأتُ الرسالة لما كنت تتوقفُ عن الكتابة لي وتنصحني بهذه النصائح الجميلة التي جعلتني شعلة من شعل الإيمان، والتي غَيّرَتْ نظام حياتي وطريقتي، لو أنك تعرفُ ما أثرت بي لكنت بكيت من توفيق الله لك بكتابة هذه الرسالة لي)...
أنا سعيد بهذه الكلمات من زاوية بعيدة عن المدح والثناء، أنا سعيد ومسرور لأنني عثرت على مثل هذا القلب أسأل الله تعالى أن يحفظك ويرعاك وأن يزيدك إيماناً وتقوى وثباتاً على الحق وأن يهديك بالنور الذي تمشي به في الناس داعياً إلى الله، بالحكمة والكلمة الطيبة، فان الحكمة إنْ خرجت من قلبٍ موصول بالله تعالى أوقدت فيه شموعَ الهدايةِ.
إنني سعيد... وسعادتي تنبع من عقيدتي ... إن هذه العقيدة التي اجتمعنا عليها هي التي تمدنا بالحياة وكلماتك هذه شاهدة على ذلك.
لقد أعطيتني وثيقةً صادقة على أننا مقصرون، في حق إسلامنا، فالقلوب مفتحة الأبواب لقبول دعوتنا وللإستماع بل وللإستمتاع بروح رسالتنا، وقديما سمعت (إن في هذه الأمة مناجم من قلوب، لا يحجبها عنكم إلا غبار الزمن). فامسحوا بأيديكم على القلوب تتفتح كالزهور، وتستخرجوا بذلك كنوز فطرتها، وها أنذا بمسحةٍ حانية فجرتُ بفضل الله ينابيع الخير في قلبك، فليكنْ ذلك درساً لي ولك، ألا نقصر في الخطاب، ولكنْ خطابنا للقلوب ونحن في أعلى درجات اليقين والإخلاص، فالله عز وجل لا يقبلُ عملاً دعوياً أشركتَ به غيرهْ، من نفس أو غير. "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً".

أي أخي:

في تلك العواطف النقية التي نَدَبْتُكَ إليها حياةٌ .. وسعادةٌ .. ومددٌ .. وقوة، غذاء، ودواء، ورواء، واحات وحدائق وبساتين. عندي فرحة كبيرة، سعادة غامرة، سرور بالغ لا تتسع له الدنيا كلها. قلبي يخفق، ينبض بقوة يكاد يطير من الفرح. أمل كبير أرنو إليه على المدى البعيد. لأراك جندياً صادقاً من جنود هذه الدعوة. يا ربِّ بَقَدْرِ ما تعلم من صدق حبي لإخوتي أسعدنا بهم رجال دعوةٍ وجنود عقيدة تحمل الأمانة وتبلِّغُ الرسالة.
إن شعوري الذي يلازمني: أنني أُوَدِّعُ إخواني الوداع الأخير. ولهذا فإنني أطمع في البقاء معهم أطولَ وقتٍ ممكن حيث يساورني شعور بالموت في كل لحظة. شعور يستبد بي دائما. لذلك أحب أن أعطي أسرار قلبي لقلوب جديدة، إن عاطفتي وحبي لإخواني فوق كل عاطفة.
هل يحظى أحد بمثل ما نحظى به من حب وعطف وحنان، ببركة هذا الإخاء في الله إنها من قبل ومن بعد روحُ الإسلام الذي بعث الله به محمداً رحمة للعالمين، ياليتَ تلك القلوب الضائعة والتائهة تذوق ما ذقنا فتؤوب.
يا إخوتاه: لقد كنتم في عالم الغيب وكانت الدعوة تترقبُ مطلعكم المبارك لتكونوا هذه الطليعة المؤمنة التي يعز الله بها هذا الدين ويحقق بها أمل المسلمين. لو رأيتم دموعي وهي تترقرق في انسيابٍ حزين وفرح بما حبانا الله تعالى به من استجابة مثل هذه القلوب الطاهرة .. مَنْ يُصَدِّقُ بعد كل هذه المحن القاسية المريرة أن يستجيب هذا الشبابُ لداعي الله، ولكن صدق الله العظيم "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" نعم أنتم ولا أُزكي على الله أحداً، الذين لبيتم نداء الله تعالى بكل قوة وشجاعة " الذين قال الله لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
أنتم بعيوننا وقلوبنا لأنكم رصيد دعوتنا واستمرار أيامنا واننا نأمل المزيد من هذا الجيل المنشود.

أي أخي:

كَتَبَ كُتَّابنا في العقليات، وكَتَبوا في فقه الدعوة وأنظمة الحياة فأقاموا الحجة على العقول فجزاهم الله خيراً، أما أنا فإنني أريد عاطفةً لها نشيجٌ ولها هدير، ولها تأملات وعبرات. فالجماعة التي تدرك هذه اللمسات وتلك الهمسات وتظللها بالحب والرعاية وتنميها بالثقة والإخاء جماعةٌ لا شك بالغة مدراج الكمال. والذين يفقدون هذه الروح بل لا يحسون بها. أو لا يعطونها حقها يفقدون أخصَّ خصائص القوة الروحية التي هي سرُّ الحركةِ المستمرة الراشدة.
الإسلام ذوق، الإسلام لطائف، الإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية يتعامل مع القلوب يتعامل مع الأرواح، يتعامل مع الأنفاس، هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات ولا بخشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بدأ بالكلمة الطيبة والنظرة الحانية "وقولوا للناس حسنا" ، "اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى"، "وليتلطف". (أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون) هذا الدين رسالة إلى قلب الإنسان "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".

أي أخي:

لا تنس أن لك إخوة فاسْعَ إلى قلوبهم وتلطّفْ معهم واجمع القلوب على القلوب بالإيثار والرعاية والصبر والحب.
احمل هذا النور واخترق به ظلمات هذه الجاهلية برفق ولين واقرأ في سيرة الرسول t وأنت مفتوح القلب فانك ستجد يقيناً أنه t رسَّخَ هذه المعاني في كل حركة وكلمة وإشارة. "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

أي أخي:

كل ما أملكه أني أتوجه إلى الله تعالى وأنا في محراب الصلاة أن يزيدك من فضله إيماناً وفراسة وحياة قلبية ويقظة في روحك ومشاعرك.
ولقد تعلمنا في الدعوة أننا نرتقي بالحبِّ حتى نصل إلى أعلى درجات القُربْ: وَجَبَتْ محبتي للمتحابين فيَّ، وانظر إلى قول رسولنا t "يحشر المرء مع من أحب" تجد صدق ما ذكرت، لهذا كان حبنا نموذجاً فريداً. اللهم وثِّق رابطة قلوبنا واجمع بيننا على الحب فيك.

أي أخي:

سألتني عن كيفية دعوة الشباب والأسلوب الأمثل لذلك وقد عجبتُ وسررتُ، أما العجب فأن تنتقل من حالة المدعو إلى حالة الداعية، وأما السرور فلأن هذا هو الأمل الذي أنشده وأبحث عنه، فرحتي كانت غامرة بهذه النقلة المباركة.
لو أني أعرفُ أنك في الإجازة لوضعت بين يديك مجموعة من الكتب الهامة تشرح لك ما تريد ولكن نحرص على أن تنجح بتفوق في دراستك لان في هذا نجاحاً للدعوة، فالأخُ المسلمُ يجب أن يتفوق في كل ميادين الحياة، لأن دعوتنا في حاجة إلى كل التخصصات العلمية كما أن دعوتنا تطلب ممن يتصدرُ للدعوة أن يتسم بعدة خصائص منها: النظافة في القلب والضمير والخلق الحسن، النظافة في المظهر والهندام "إن الله جميل يحب الجمال" والله تعالى لا ينظر إلى صورنا ولا أشكالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا.
فالصورة الجميلة بلا أخلاق ولا ذوق ولا أدب، لا قيمة لها في ميزان الإسلام، فليس الجمالُ في شكل الجميلِ، فشكل الجميل بسوء الفعالِ طينٌ بطين وحبُّ محال. وكمما أننا نطالب الأخ بالنظافة الحسيِّةِ والمعنوية نطالبهُ بالتفوق في أي ميدان دخل فيه، ولنعدْ إلى موضوع الدعوة وكيف تدعو؟.
أذكر لك منها شذرات: أقول: إن الدعوة تحتاج إلى استيعاب ثم إلى عرض مخلص يرافقه الإيناسُ للمدعو.
فالدعوة تقتضي فهماً دقيقاً لكل مراحلها وأهدافها وما تريدُ في المستقبل وماذا تقصد في النهاية وما هو طريقها لتحقيق أهدافها ويلزم لذلك قراءة رسائل الإمام حسن البنا ومذكراته والكتب التي تدور حول هذه المعاني، كما يجب مدارسة تاريخ هذه الدعوة منذ بدأت والمصاعب والمحن والشدائد التي مرَّتْ بها .. وأنسبُ وسيلة للاستيعاب هي الإستماع إلى الإخوة القدامى الذين عاصروا هذا الطريق الطويل الشاق.
وعليك بعد ذلك أن تَتَحَصَّنَ بالفهم الجيد لشمول هذا الدين فتقرأُ الكتب المفيدة التي تُعِينُكَ على الإحاطة بقدر الإمكان.
ومع هذا وذاك فلا عليك إلا أنْ تصحح نيَّتَكَ وتتكلم والذكرى تنفع المؤمنين.
وأضعُ بين يديك مسألة هامة، تلك هي عدم التسرع مع الأفراد في الأحاديث المستفيضة قبل أن يأنسوا لك ويحبوك ويثقوا فيك، ولا يكون ذلك إلا بالصبر الجميل والأناةِ وحسن الدخول إلى القلوب بالابتسامة الحلوة والنظرة المخلصة والسؤال عن الغائب وزيارة المريض وغير ذلك.
فبعض الشباب يتسرع وقد يصدم في أول الطريق حين لا يُوَفَّقُ. وربما دعاه ذلك إلى أن ينطوي. إن الدعوة إلى الله والصبر عليها جهاد. الوسيلة الناجحة في الدعوة أن تدخل إلى القلب برفق، تتقدم نحوه خطوةً ثم خطوة أخرى ولو طال الزمن فالمهم هو الوصول في النهاية إلى الهدف، فاذا وصلنا إلى هذا القلب استجاب العقلُ وصحَّ الفكر واستقامَ الطريق، أما إذا كنت قد بلغت درجة الوصول إلى القلب في الجلسة الأولى وأن تصهر محدثكَ بدعوتك فلا تقصر.
الأسلوب الأول يحتاج إلى وقت وصبر ومعاناة لكنه مأمونٌ ولا سيما إذا كان دعاة الباطل ينازعونك على المدعو لكن النهاية سوف تكون لصاحب الحق ثم لصاحب القلب ما كانَ في المدعوِّ خير وصَدَقَ منْ قال (بين الهزيمة والنصر صبر ساعة) وأبشرك أنك سوف تجدُ من القلوب من يستجيب، وسوف تجد أن الذين يقتنعون كثيرين وتلك عاجل بشرى المؤمن، والمهم في النهاية أن تكون في حالة حركة دعوية مستمرة، والمتحركُ في كل خطوةٍ بركةٌ وعمل ونماء.
والإنسان الذي يعيش بلا حركة دعوية هو حيّ كميت، موجود كمفقود لا أثرَ له، هو في الواقع لا يُعطي ولا يثمر، كشجر السرو له طول وليس لهُ ثمرٌ، وليس هذا هو الوضع الأصيل للمسلم، فلا إله إلا الله في قلب المؤمن لها ثَمَرُها "تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها" فالمسلم في ذاته مثمر منتجٌ حين يستقيم مع الحق فهو كذلك في أسلوبه وفي أخلاقه وفي معاملاته وفي إشراقة وجهه وفي ابتسامته وفي لطف معاملاته مع إخوانه وفي الحرص على الوفاء بوعده وعهده وفي حسن تعامله.. وهذا وحده حياة وسعادة ودعوة.

أي أخي:

هناك ما يُبكيني ويُحزنني.. فهناك جفافٌ في قلوب بعض الإخوة وهم لا يشعرون لأنهم لم يسبق أن عاشوا في رحاب الوجد، فهم يتصرفون بلا إدراكٍ للحقائق النفسية العميقة، ومع حزني عليهم فإنني أتحملهم لأننا تعلمنا أن نعفوَ ونصفح بل أن نخفض جناح الذل من الرحمة لكل إخواننا.
أي أخي:

كثيراً ما أجد نفسي وكأن ريحاً عاتية تهب على قلبي فتحدث قلقاً فماذا أفعل؟
عندما أجد مثل هذه الحالة أذهب إلى أخٍ صالح مؤتمنٍ أجلسُ معه أفضى له بكل ما في نفسي من عذابٍ وآلامٍ ومشاعرَ وعواطف مما يجوز لي شرعاً أن أقوله، وكثيراً ما أعود وكأن شيئاً لم يكنْ، مَنْ لنا غير هذه القلوب الحانية التي تغمرنا بالحب والحنان؟ لقد طلقنا النوادي والمقاهي ومجالات العبث واللهو، وارتضينا الكينونةَ مع القلوب والأرواح والعواطف الطاهرة الزكية التي تسعنا وتفيض علينا وتعطينا وتمسح دموعنا "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
فلا تنسَ ولا أنسى أن هذا هو سرُّ العلاقةِ الأخوية التي لا يجوز التفريط فيه.

أخي المسلم:

يا ابن الإسلام .. يا ابن القدس .. يا ابن فلسطين .. يا هذا الأمل المأمول، يا من نتطلع إلى أمثالك ليزيلوا هذا الركام وليرفعوا رايةَ الإسلام، يا من ننشده للمجدِ التليد، يا من نتطلع إليه أن يكون منبعاً للخير والمجد والحياة .. أين أنت؟ هيّا للرجاء المنشود كن عبداً لله ساجداً وراكعاً وذاكراً وتالياً. تَجَرَّدْ وتعلَّمْ واعزم عزماً أكيداً أن تكونَ جندياً خالصاً، أدعوكَ بكل حبي لكَ أنْ تكون لك غاية تسعى إلى تحقيقها وتعمل من أجلها، وليس أعظم من الإسلام غاية ولا أشرف منه بداية ونهاية.



















الرسالة الثانية
أي أخي:

لقد كنتُ أظن أن الإنسان حين يقارب الستين من عمره تخف مسؤولياته وعليه أن يستريح ولكني مع ضعف صحتي وقلة حيلتي تتضاعف أمامي المشاكل والمتاعب، ومن ناحية أخرى تشتد عواطفي وتزداد مشاعري رهافةً نحو إخواني، وأحسٌّ بحرارة هذه الأحاسيس والمشاعر، وأحياناً أقول لنفسي لعلّكِ بهذه العواطف تهربينَ من المتاعب المتلاحقة فتقولُ: ليس هروباً ولكنه زاد الطريق الذي يعين المسلم على الوفاء بالتزاماته، فان الهروبَ من القدر لا يُنجي من القدر، ولكن عواطف الرحمة والوفاء والحب في الله محطات راحةٍ على الطريق الشاق، فراحتي يا إخوتي في أُخوتِكمْ فلا تبخلوا عليَّ بها.

أي عباس:

كم أنت سعيد بهذا الخير الذي غمرك الله به فكانت لك هذه القلوب الكريمة التي أَحْبَبْتها وأَحَبَّتْكَ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما وُفِّقْتَ لها، فالحمد لله الذي هداك لهذا الخير وأكرمكَ بأخوة هذه النخبة الفاضلة، ولقد سعدتَ بالإخوان الذين وهبهم الله تعالى نعمةَ العلم فأخلصوه لخدمة الإسلام، فكانوا نبراساً ونوراً يستضاء به، كم أسسوا في قلوبنا من عواطف خيرة ومشاعر نيرة.

يا شباب الإسلام:

هذه رسالةُ جيلنا نستودعها جيلَكُمْ فاحرصوا على ود القلوب وطاردوا الوسواسَ الخناس ولا تدعوا فرصةً للغيبة والنميمة فانها تقتلُ الحبَّ وتُفشي البغضاءَ، قاربوا وسددوا ولِينُوا في أيدي إخوانكم وتطاوعوا ولا تختلفوا، والله معكم يحفظكم ويرعاكم لهذا الإسلام العظيم.
يا رب – سبحانك اعطيتَ لنا شباباً حياً تقياً قوياًو هُوَ لنا في هذه الدنيا زاداً ودواء ورواء نحبه حباً لا يعرفُ قدره إلا القلوب المشتاقة التواقة.
يا رب – نشكركَ أنْ جعلتنا نرى آخر أيامنا شباباً وحياة وحيوية في دعوتك ولدعوتك.
إنه يا رب – منك خير العزاء وأرجو في الآخرة أن تمنَّ علينا معهم باللقاء.
يا رب – دموعي حائرة تشتاق إلى قلوب زاهرة أشتاق إليهم على البعد البعيد.
يا رب - هؤلاء عبادكَ وهبوا لك أنفسهم وأموالهم، ربنا فاغفر لنا ولهم.

أي أخي:

الحب في الله تعالى أذواقٌ وأرزاق، وليس الرزق هو المال فقط، فان التقوى رزق والإيمان رزق، أليس من ثمرات الإخاء الغنى والرضى والأمان والاطمئنان، فأيُّ رزقٍ أعظم من هذا. ألا تحس في اجتماعاتنا سعادةً تفوق حلاوة المادة وسلطانها، ألا تحس في صفاء قلوبنا وصدق مودتنا ما هو أغنى من الحياة نفسها. إنه نورٌ يضئ جوانب الحياة فنقبل عليها في ثقة وحب وحماس.
الحياة يا أخي ليست المال والجاه فقط، ربَّ كلمةٍ عميقة مؤثرة ممزوجة بالصدق تعطي القلب حياة وسعادة وانتعاشاً أكثر من كل ما يفرح له أهل الدنيا.
أخي يا نموذج الإخاء: الله يعلم أنني أحملُ لك أعمقَ معاني الحب لأدبك الجم وحيائك اللطيف وشعورك النبيل، وهَلْ لنا غير تلك القلوب الطاهرة في هذا الظلام وهذا الركام، بين جموع البشر التائه في غابات الوحوش الآدمية.
إن العثور على قلب مؤمن مشرق يحبُّ الله ورسوله ويعمل لإعادة مجد الإسلام بمثابة العثور على كنز بعد فقرٍ وهوان، وأي كنز مهما بلغ قدرهُ يساوي قلبَ مؤمن، كل ما سوى الدين هباء، كل ما سوى هذه الرابطة المقدسة لا يساوي شيئاً. خجلتُ من نفسي كم تقصرُ في حقكَ.

أي أخي:

لعلك لا تدري أنني اخصُّ الإخوة في سوريا بالكثير من الحبِّ ولي معهم علاقاتٌ روحية عيمقة ورسائل متبادلة، أما الإخوة الفلسطينيون فإنهم مِلء قلبي، ولكن هناك هل هناك أخٌ لا أحبه؟ تذكر جيداً هذه الوصية: إنّ عليك أن تبعث روحَ الحبِّ بين الإخوة جميعاً، هذا أصلٌ من أصول دعوتنا ولولا هذا الحب ما قامتْ لنا قائمة وما بقيت لنا جماعة فلقد عرفنا وتعلمنا أن: (الدعوة حب – والحب دعوة – ولا دعوة بغير حب) ولا يمكن أن يشيع هذه المعاني الكبيرة إلا أصحاب القلوب الكبيرة التي تحس بهذه المعاني حقيقة تعيش في وجدانهم وأعماق قلوبهم، ونحن اليوم أمام الظروف التي لا تخفى عليك أشد ما نكون حاجة ملحة إلى دعوة الروح، والحب هو روح هذه الدعوة، فإذا كان القلبُ هو روح الجسد فان الحب هو روح هذه الدعوة.
دموعي هي سبيلي إلى الراحة النفسية، وأحياناً أشواقي تخفف أحزاني، وأحياناً آلامي تنير طريقي، وتطلعي إلى لقاء الآخرة يمنحني الأمل الذي يغذيني أو يعزيني.

أي أخي:

الجمال مُحَصِّلَةُ مواهبِ الروح والعاطفةِ والذوقِ والأدب والحياء وحسن الإستماع ورقة الشعور والمشاعر، والانسانُ الموهوب هو الذي تزينه اللطائف الروحية فيضيء كالمصباح، تتلألأ على وجهه أنوارُ التقوى والهداية لمن رآه، كان رسول الله t مَنْ رآه بديهةً هَابَهُ، ومن خالطه معرفةً أحبَّهُ، ومن وهبه الله تلك النعم عليه أن يقوم بحقِّها، يجمع بها القلوب ويشعل الأرواح، يدفع من ذَوْبِ قلبه في قلوب إخوانه ليربط على الحق قلوباً تجاهد في سبيل الله.











الرسالة الثالثة
أى بُنَيَّ:

أرسلتَ تقول: "والدي الحبيب" كم أنا سعيد، كم أنا فخورٌ أن تكون هذه منزلتي عندكَ، إنه والله لشرفٌ كبير أعتز به، سيبقى يدفعني لأستتحقه وأكون أهلاً له.
أقول: هذا فضل الدعوة أولاً فلولاها كمنا في عالم لا يعلم سرهُ إلا الله تعالى، فالدعوة يا أخي هي روحُُ وجودنا وسر شعورنا النبيل الذي يفيض بالأدب والحياء، وإنْ تعجب فعجبٌ ما تكنه الصدور مما استقرَّ في الأعماق من آثارٍ هي أكبر وأعمق وسوف تفيض على العالم بِرَّاً ومرحمةً في يوم من الأيام.

أى بني:

تقول: (والدي قد ربطتني بقوةٍ خفية)
اسمع: حين سعيتُ إلى قلبك بكل عواطفي ومشاعري وحبي، كنت أقصدك، أنت تقول: لقد ربطتني بقوة خفية، وأنا أقول لقد شَدَدْتَني إليكَ وجذبتني بنفس القوة، فاستعدادك للخير كان قوياً انظر إلى قولك: (إن هذه الرابطة جعلت قلبي يفتح دون إرادتي لكلامك وأصبحت كل كلمة تحمل معنى عظيماً) تدري لماذا حدث هذا؟ لأنني وأنا أتكلم معك أكون في حالة من الحضور القلبي والروحي مع ربي لأنني أخاطبك من أجله.

أي أخي:

ليست الدعوة جانباً واحداً، فمن يعجزه العمل في ميدان، فهناك ميادين كثيرة في حاجة إليه. يقول الإمام البنا رحمه الله: الفلاح الذي يزرع القطن يعرف أن الثمار تحتاج إلى ستة شهور فهل ينتظر ستة شهور بلا عمل؟ لا. انه يزرع حول القطن خياراً، طماطم، ذرة، فجلاً جرجيراً، حتى يأتي وقت حصاد القطن، نحن في حاجة إلى أن نؤدي حق الدعوة الفردية وهو أنفع شيء للدعوة في هذه الظروف. إن دعوتنا عالمية لن تقف عند مشكلةٍ ولا تتعطل عند أية معضلة ولا بد أن نتحرك، باستعمال البدائل والأولويات.

أي أخي:

أخاف أن أمتدحكَ فتضيعَ وتضيعني معك، أخافُ عليكَ من أن تنسى فضل الله عليك.. أنت مُدَّخَرٌ لغايةٍ كبيرة فافطم نفسك عن شهواتها، وأخرجْ حظَّ نفسك من نفسك، تجرد من حب الظهور، وحاذر مِنْ (أنا) وتقرب إلى الله بحسن العبادة وصدق التوكل، تَعَلّم أن تحاسب نفسك كلّ يوم حتى تخلصها لرسالتها التي تترقب مطلعك.




أي أخي:

تعرفتُ على الدعوة الخالدة في السابعة عشرة من عمري، فأنقذني الله من الدمار، قضيتُ هذه السنين في رحاب الدعوة، حُلوها ومُرَّها، أما حلوها فقد كان في صحبة إمام هذه الجماعة وأبنائها، فهذه هي السعادة ولا منازع، وأما مرها فما أشده ولكنه لا يقاسُ بنعمة الأخوة وحلاوة الحب في الله تعالى، لقد كنا نعيش في محنٍ قاتلة، لا يسهّل علينا الحياة في أتُونِها إلا رحيق الحب، وحلاوة اللقاء، وعذوبة الابتسامة، ورقة المعاملة، ومن ههنا أقولُ لكَ: الإخاء الإخاء. ليت قومي يعلمون، فينهضون ويعملون، فالنفوس سخية وفية عامرة بالإيمان.

أي أخي:

أوصيكَ بالأدبِ والتجرد والإيثار فإنها نادرة في هذا العصر، إنها تقاليد راسخة موروثة في دعوتنا، ورثناها ورضعناها من الجيل الأول، جيل أصحاب رسول الله t، عند غيرنا تحدث (الغيرة) وتحدث (الأنانية) ولكن عندنا (ويؤثرون على أنفسهم) ويفرحون لفرحِ من يحبون ويبذلون في سبيل ذلك من عواطفهم ومشاعرهم ما يفوقُ الوصفَ والحساب (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا). تلك يا أخي أمةٌ جديدة وأمة فريدة.
التقيت بإخوة أتعبوني كثيراً حتى أني لم أجدْ سوى الدموع تشفع لي عندهم، لفرط حبي لهم قلتُ لهم كلماتٍ لم تكن تخطر ببالي من قبل. ألهمتها أمام هذه المشاعر المتدفقة، لم أستطع التماسك، لقد كانت لحظات من النور نادرة المثال.. ليت تلك الصورة وهذه المشاهد يمكن تصويرها أو إيضاحها، من الصعب جدا أن يحدث ذلك، اللهم إلا إذا انقلبت الدنيا إلى الآخرة.

أخي: إنَّ الخير يأتي بالخير "ومثل كلمةٍ طيبةٍ كشجرة طيبة".
لقد تفتحت الأزاهير وأينعت الثمار وأصبح لنا لغة جديدة أمتع وأروع وأحلى وأعذب، لقد أدرك الإخوة هذه النعمة الخطيرة في التفاهم والتلاحك والحب فأنتجتْ يقظةً في القلب وحياةً في الوجدان والمشاعر.
لقد أدرك الإخوة قيمة إنسانيتهم وحقيقة وجودهم وسر خلق الله لهم، فارتفعت في ميزان تفكيرهم قيمة الحياة، وقيمة الوقت، وقيمة هذه الدعوة، فاكتشفوا أنفسهم وسط هذا الزحام وهذا الركام، فكانت الإنتفاضة الروحية "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وهذا هو البعث الجديد لحياة إسلامية راقية على وعي وفهم وثقة بنصر الله تعالى.
كنتَ يا أخي بالنسبة لي مفاجأةً سارةً عبر وحشة هذه الجاهلية التي نعيش فيها، فالذين يملكون الأحاسيس العالية ندرةٌ نادرة في عالمنا، لأنهم دائماً يتأثرون بما حولهم من قبحٍ وجمالٍ وشر وخير، يتألمون للشر ويفرحون للخير، لا يعيشون لأنفسهم لأنهم أصحاب رسالة تشغلهم وتؤرق مضاجعهم، وتلك في الإنسانية أسمى ما تميز به الإنسان.. إن الحقيقة التي جمع الله تعالى بها قلوبنا فوق تصور الناس الذين يعيشون أحياء كأموات لهم قلوبٌُ لا يفقهون بها فحياة القلوب سعادة: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فالقلب الحي هو ذلك المستودع الكبير لأسرار الله تعالى في هذا الكون وهو مهبط النور والهداية (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
وحين تستيقظ القلوب تتغير هذه الأوضاع جميعاً بفضل الله ونعمته، ولهذا كانت مهمتنا أن نقترب من تلك النفوس التائهة بكل ما نحمل لها من عواطف الحب والخير، نقترب منها بإشفاق وعطف لأنهم لا يعلمون ما نعلم ولم يتذوقوا ما نتذوق، ومن هنا قال رسولنا t "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" كما قال إمامنا رضي الله عنه "كونوا كالشجرِ يرميه الناسُ بالحجر فيلقي إليهم بالثمر" نحن نسعى بكل ما نملك من صدق الحب للناس أن تتفتحَ قلوبهم وتستيقظ مشاعرهم وتفهم بعد ذلك عقولهم.
إنني شديد الإيمان والإعتقاد من واقع التجربة الطويلة أن العيب ليس في كل الناس، ولكن أكثر ما يكون من تقصير الداعية المسلم نحو إخوانه من المسلمين. أعتقد أن كل شاب مسلم في حاجة ملحة إلى قلب وحنان ورحمة ومرحمة. ذلك لأنه يفتقد ذلك من المجتمع الذي يعيش فيه، لهذا فهو يكره الناس لأنهم قد تخلوا عن قلبه، ويوم يأنسُ ويجد هذا النورَ سوف يكون أول من يسارع إلى القافلة.
يعلم الله تعالى أني ما دخل اليأس في نفسي تجاه أي إنسان، نعم قد يصعب انقياد بعض الناس للحق ولكن مع الصبر والحلم ودعاء القلوب سوف يكون له شأن.

أي أخي:

إنني لا أنظر إلى الوراء بل أعمل في كل لحظة عملاً جديداً للدعوة. أفكر أحترقُ من العذاب لما يعيش فيه المسلمون من غفلة. أحبُّ الإخوان وأعتبر حبهم هذا إكسير حياة وسعادة تعطيني الزاد والوقود، أقرأ أتدبر، أتعرفُ على أخ جديد، أكتب ما وسعني الجهد رسائل للإخوة، أرد على رسائلهم أخاطبهم بالهاتف، أربط هذا الأخ بمثيله من الشباب، أذكر هذا لهذا بالخير حتى يحبه، أسعدُ جداً حين أرى أخاً يحبّ أخاه والإثنين يحبون الثالثَ والثلاثة يحبون الرابع، أكرهُ أن يخاصمَ الأخ أخاه أو ينساه، أتمنى أن ينهض كل أخ بواجب الدعوة فيعيش في سعادة.

أي أخي:

دعني أقول لك إنه لا حياة لنا بِلا عقيدة، ولا عقيدة إلا الإسلام، ولا وجود لنا على وجه الأرض إلا بوجود كيان، ولا كيان لنا إلا بدولة الإسلام، ولا قيام للدولة الإسلامية إلا بقاعدة قوية صُلْبَةٍ تعرف غايتها في هذا الوجود وتحقق أهدافها بوعي وصدق وفهم وصبر. فإن الأمة التي تصمم على الحياة لا يمكن أن تموت، وما دمنا نسير على هدى الله وكتابه وسنة رسوله فلن نضل الطريق أبداً، فالإخلاص وجهتنا والصواب طريقنا "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".

أخي في الله:

هناك في هذه الدنيا مصادر للسعادة الفانية الزائفة، ولكنها لا ولن تصلَ إلى أعماق قلوبنا ومنابعَ أحاسيسنا، حيث أن سعادتنا تحقيق آمال من فوقها آمال، آمال أمة مسحوقة وشعوب تُذاقُ مُرَّ العذاب، سعادتنا ترمي إلى غاية بعيدة لا تتحقق إلا بتلك القيم الرفيعة والهمم الكبيرة والنفوس العظيمة، سعادتنا بالحب الذي يجمع تلك القلوب على أسمى غاية وأنبل رسالة في هذا الوجود، فحبنا نابعٌ من روح العقيدة التي نسموا بها وترقى بأخلاقنا ومشاعرنا، لهذا كان الحب بيننا روحاًً لا تشوبه ماديةُ هذه الحياة.





أخي:

لن يُطفئ الشوقَ إلا لقاءٌ واحد "إخواناً على سرر متقابلين" هذا هو الأمل المأمول الذي ننشده بكل الأشواق، كم أتمنى أن يجمعنا الله مع كل من أحب من الإخوة في صفٍ واحد كالبنيان المرصوص، فنلقى الله تعالى شهداء، ننعم بهذا الحب الذي ضاقَ بنا التعبيرُ عن جوهره "إخواناً على سررٍ متقابلين" يا له من تعبير يشفي القلوب ويُحَلِّق في رحابِ الخلود.





























الرسالة الرابعة

أي أخي:

أنا كما ترى رجلٌ يهيم حباً بإخوانه ولا يجد له في هذه الدنيا مرفأ سوى تلك القلوب والأرواح، إنها لأشواقٌ كبيرة وعواطف جمة جعلها الله عند المتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتجالسين فيه.

أي أخي:

لستُ مدرساً في فصل ولا واعظاً في مسجد، وإنما الأمر أبعد من ذلك، أنا أبحث عن قلب كبير، عن روح عظيمة.
لقد تعلَّمنا من الإمام الشهيد حسن البنا البحث عن مثل هذا، حيث كان يجلس بعد الحديث أو المحاضرة ليبحث عن ذلك عند الذين تأثَّرُوا بحديثه، ثم يتعرف عليهم ثم يتابعُ التربيةَ نحو الحقيقة التي هي أكبر من منظور الناس خارج محيطنا، فالعقيدة الإسلامية ومشاعر الحب في الله تعالى تمحو كلَّ الفوارق على اختلاف أنواعها. وبين يدي قصص وحكايات فوق طاقة العقول التي تعيش في الجاهلية.
كل الإخوة على اختلاف أسنانهم ومراكزهم الاجتماعية حين يعشقون هذا الإسلام تَصُبُ قلوبهم خيراً وشأنهم في المساواة والحب في الله مثل (الأواني المستطرقة) كلّ يصبُ في الآخر ويأخذ ويعطي.

أي أخي:

أنا لم أعرفكَ من فراغ، لقد تعارفتْ أرواحنا في عالم الذر، والأرواح جنودٌ مجندة، فلستَ جديداً أو وليداً فشوقي لك وحبي لروحك يعودان إلى الجذور. أليس المفروض أن نسعى إلى قلوب الناس لنحقق التعارف، هل هذه الدعوة مقصورة على فئة من تعيش لنفسها فقط؟ فأين فضل الرسالة والأمانة التي كلفنا الله بها؟ أصارحك بكل صدقٍ وإخلاص أنك إنْ لم تبذلْ جهداً لتعرفني لسعيتُ أنا بكل ما أعطاني الله تعالى من أحاسيس لتكون ذلك الإنسان الذي أنشده لهذه الأمانة.

إسمع يا أخي:

إن مهمتي نابعة من ذوب قلبي ومن عاطفتي ومن دموعي وشجوني وآلامي وأحلامي وعذابي وإشفاقي، ومن شدة الهمّ وكثرة الغم وثقل التَّبِعَةِ وضخامة الأمانة، والخوف والرهبة من يومٍ يُسأل فيه المرء عن عمره فيما أفناه.. هذه هي الحقيقة أو بعض الحقيقة تلك التي جعلتني أصر على معرفتك لتكون ساعداً ومساعد تُعطي وتفيد وتبعث الحياة والأمل والنور، نحن نريد روحاً جديدة تنبعث وتشيع في هذا الجيل وتأخذ بيديه، هذا سر حرصي عليكَ وإصراري على مخاطبتك لأني آمل فيك أن تضفي على أجواء مجتمعنا روحاً من الحيوية والإيجابية والأخوة الإسلامية التي كدنا نفقدها، تلك هي الحقيقة والله أعلم.



أي أخي:


تعبتُ من الإنفعال العاطفي والتفاعل القلبي، كلٌّ من الإخوة يحتاجُ إلى جلسة روحية مستقلة مع نفسي وقلبي، إنها مهمة صعبة أن تجمع كل القدرات والمشاعر والأحاسيس لتخاطب قلب الإنسان لهذا فقد تعبت، ومع ذلك فاني لا يمكن أن أقطع هذا التيار فإنه هو الحياة، وهو النور، وهو السعادة، وفي كل يوم يزداد التعب ولا مناص من الوفاء.
صدقني أنني أستصغر نفسي أمام تَفَتُّحِ قلوب الشباب وعظم أدبهم ووعيهم، آهِ لو تقرأ رسائلهم أو تستمع إلى آمالهم أو تعيش في رحابهم، والله لقد احترقت نفسي أمام تلك النفوس، فهل نستيقظ، فهل نسرع الخطى قبل أن يحاسبنا الله تعالى على ما فات من تقصير.
أرجو أن تشجع الشباب على الكتابة، فالكتابة قد كشفت عن معادن وأفكار وتفوق غير عادي، لقد اكتشفتُ أننا في حاجة إلى أن نعامل هذا الشباب من منطلقٍ جديد، فالواقع أن وعيهم فوق سنهم، ولن يمكننا أن نعرف ذلك إلا من خلال كتاباتهم لنا، فأفسحوا الطريق أمامهم حتى يكشفوا عن هذه المعادن الغالية، وحتى يمكننا أن ننطلق إلى مراحل أوسع للنهوض بهم وإعطائهم حقهم.

أي أخي:

على عاتقك مسؤولية خطيرة للغاية.
"الدنيا كلها تحارب الإسلام".
ترى ما هو الواجب علينا أقول لك أقل ما يجب علينا هو أن ننقذ شباب المسلمين من الضياع، فهؤلاء إنْ لم ننقذهم كانوا مع أعداء الإسلام ضد الإسلام وضدنا، ولو حاربنا أعداء الإسلام بغير أبنائنا لهانَ الخطبُ ولكنْ أنُ يحاربنا أبناء الإسلام، فهذه هي الكارثة الكبرى.
نحن نعرف أن شباب المسلمين يعيشون في جهالة بهذا الدين. والدليل على ذلك هو أنتم قبل توفيق الله لكم "كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم" إذن أنتَ وإخوانكَ الذين مَنَّ الله عليكم بهذا النور، أليس من واجبكم أن تبذلوا جهداً من خلال بذل الحبِّ، بهذا الفهم الواعي الصابر الوقور نصل إلى قلوب الشباب، ولو كانوا كما قلتَ لي (نحن نحبهم كما علّمْتَنَا وقلتَ لنا: أن ننزعَ البغضَ من قلوبنا ولكنهم يبغضوننا وينظرون إلينا نظرات الحقد..).
الأمة الإسلامية بحاجة إليك معلماً وداعية تحملُ في قلبك هموم هذا العالم وتضيء لأبنائه الطريقَ بالحبِّ الصادق العميق، فاخلعْ عنكَ الأوهام واعلمْ أن الطريق لا يسلمُ من مخادعٍ ومنافق ولكن هذا لا يمنعُ من العمل المتواصل بلا تراجع ولا تردد، وكم أصابنا من مصائب ومحن. ولكن القافلة تسير.

إسمع يا أخي:

لا بد من الصبر، أعتقد لو أنك تقربت من أحدهم رويداً رويداً مع حسن الخلق (أن تصل من قطعك وتعفو عَمَّنْ ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك) فلا بد من نتيجة، وهذه هي مهمة الداعية الحاذق، فانهضْ وإخوانُك الأحباب بهذا الواجب المقدس وإيماني لا يتزعزع أن هناك قلوباً بكراً نقية طاهرة تترقب مطلعكم وتنتظر أن تتقدموا إليها بعاطفة الحب في الله تعالى، وغاية الإنقاذ العودة إلى سبيل الله تعالى "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمْ من يمشي سوياً على صراطٍ مستقيمٍ"، "سيجعلُ الله بعدَ عٌُسرٍ يُسراً".
أي أخي:

إن الأمر يحتاج إلى عمل جاد متواصل في بساتين هذه القلوب، أعترفُ بأننا تأخرنا كثيراً، يجب أن نفتش بل نكتشف هذه المعادن المهجورة، تلك المعادن الغالية النادرة، كما يجب علينا أن نعيش في قلوبهم، وأن نعمل على يقظة مشاعرهم حتى يشعروا بوجودهم، سوف تجد أن هناك عناصرَ كثيرة أفضل منا بكثير، كما قال البنا (كم مِنَّا وليس فينا وكم فينا وليس منا)، أقسم لك بالله تعالى لقد رأيت شاباً صغيراً دون الخامسة عشرة أو يزيد، أذهلوني بل أتعبوني. إني أومن إيماناً لا شك فيه (أن المستقبل لهذا الدين) ولكن ليس المستقبل للغافلين.

أيها الإخوة:

لا تحقروا أحداً فالله تعالى يجتبي من يشاءُ من عباده. سوف يتأكد لكم أن هناك من يترقب أيدينا لنأخذ بيده، وهناك من يتمنى أن يتعرَّف على دعوتنا ويترقب من يناديه، ويبعث الأمل فيه.






















الرسالة الخامسة
إذا حققتَ مِنْ خِلٍّ وداداً
فَزُرْهُ ولا تخف منه مِلالا
وكُنْ كالشمس تطلعُ كل يومٍ
ولا تكن في زيارتهِ هِلالا
إني أحب أن أزور إخواني كلّ يوم لو كان ذلك في الإمكان، لكنني لا أستطيع، على أن مما يدفعني لزيارتكَ أن تقدم لي بعض القلوب من الحصاد الجديد، من هذا الشباب التائه في ظلام هذه الأحداث، من الشباب الذي يرنو إلى الأيدي الحانية المتوضئة، الشباب الذي لا بد من أن نعيش معه بكل قلوبنا وكياننا، ليس من الوفاء لدعوتنا أن نسعد بها وحْدَنا وأن نفرح بها دون غيرنا (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسهِ)، إن دعوتنا ليست دعوة إقليمية وليس فيها عصبية، دعوتنا للناس جميعاً فهي دعوة عالمية، لا يصح أن تتوقف عند حدود فإذا فعلنا ذلك فما زدنا عن أننا أصدقاء فقط، ولكن الحقيقة أكبر من هذا، نحن دعوةٌ وحركة ورسالة.
لقد كان الإمام البنا يقول: وددتُ لو أستطيعُ أن أُبَلِّغَ هذه الدعوةَ لكل طفلٍ يُولد.
إسمع: ترى كم تحب من الإخوان؟ تصور أنك حين تقوم بواجب الدعوة فسوف تحبُّ الكثيرَ ويحبكَ الكثيرُ، سوف تسعد بهذه القلوب وسوف تسعد بك هذه القلوب. الحق أقول لك: إنك وإخوانك الأحباب عندكم فرصة لا تعوض في هذا الجيل أن تجمعوا القلوب على الله.
لقد كانت كثير من القلوب منطوية منزوية وكانت منسية، حتى إذا شاء الله تعالى أن تجد همسة من نداء ولمسة من يد حانية ونظرة من عين باكية، ولمحة من كلمة ندية، تفتحت كما تتفتح الأزهار وأقبلت النفوس كما يقبل النهار، وتدفقت العواطف كما تتدفق الأنهار، وظهرت الفطرة الإنسانية على حقيقتها الربانية، تشع النور وتستهدي الحق وتبني وتشيد.
أنشدكَ داعيةً بما وهبك الله من فضله من حسن الخلق وحسن السلوك وحسن المعاملة، لقد عرفتكَ من دون لقاء فأدركتُ فيك هذا الأمل.
أدعُ إلى سبيل ربك بما حباك الله تعالى به من فضائل.
عايش هذا الشباب اليتيم الذي ليست له دعوة ولا رسالة وليس له هدف ولا غاية، تَقَرَّبْ من هذه القلوب حتى تتفتح أزاهيرها وتنتعش آمالها وتكونَ لنا زاداً أو تكون لنا رديفاً.

أي أخي:

تُرى هل أعيشُ فأخاطبك بعد اليوم. كلماتي هذه إليك عصارة قلب وأريج عاطفة، تكاد تنطق لفرط ما تحمله من عظيمِ الحبِّ لكَ، فالتحق بالركبِ وأعطه الحبَّ.

أي أخي:

عندما رأيت وجوه هذا الجيل كأنها روضة زاهرة، نور على نور، وزهور تحيط بها زهور، شبابٌ نَضَّرَ الله طلعتهم، لهم بهاء ورواء وسكون الأتقياء، رأيت نفسي من السعادة في سماء لا تطاولها سماء، وددت لو يبقى هذا الشعور وكفى.

أي أخي:

أدركنا ركب الدعوة الأسلامية فانطلقت الفطرة الإنسانية تعبر عن وجودها في رحاب الإسلام العظيم الذي أعطى كل شيء حقه في هذا الوجود، فكان الحبُّ الذي يصل قلوبنا بالله تعالى ويسمو بها إلى مدارج بعيدة عن إدراك كثيرٍ من الناس، كم من الليالي شهرناها في رحابِ الحق والخير ولاهداية، كم من دموعٍ زرفناها في سجود وركوع، وهواتف الأرواح تحلق بنا في عالم الغيب والشهادة، كم من مواقفَ دقيقة عشناها لا نبالي ولا نخاف، كم من أحداثٍ صنعناها سوياً.
ولقد كان الإمام البنا بنَّاءً يربط بين القلوب ويدعم الصلات ويوصي بالأخوة التي أدناها سلامةُ الصدر وأعلاها الإيثارُ.

أي أخي:

إنني أحب الإخووة جميعاً على هذه الساحة الواسعة وبودي لو أُعطي كل ذي حقٍ حقَّهُ. وطاقتي محدودة.. ومع هذا فإني أحاول الوفاء. ومنذ أيام سألني أخ كريم:
- قال: (أنت تحب كل الإخوان لكن هل تساوي بينهم في عاطفة الحب؟) الإجابة هو نفسه يعرفها، ومع هذا فقد قلتُ له: الإخوان في خاطري كالفاكهة كلها محبوبة، وإنْ كانَ بعضها أحب من بعض.

أي أخي:

الدعوةُ عَرْضٌ وكلما كان العرضُ حسناً جذاباً أقبل الناس على الشراء.. قرأت منذ شهور عن انهيار الإقتصاد العالمي. قال الكاتب: إنًَّ سبب ذلك عدم وجود من يحسنون عرض البضاعة سواء في المحلات أو في الأسواق العالمية. وحين قرأت تلك الكلمات، عدت بتفكيري إلى الدعوة التي أحبها قلت: يا سبحان الله. إنَّ دعوتنا إذا لم تجد الدعاة العاملين الذين يحسنون عرضها، فإن ذلك سوف يؤدي إلى توقف الحركة الإسلامية، فهيا يا حداةَ الركب، "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسنُ".

أي أخي:

في عام 1951 عدت من منفاي في أسيوط للعمل في الإسكندرية، وكان ذلك حين عادت جماعة الإخوان رسمياً بعد محنة 1948. ومن تقاليد الإخوان في دورهم ومراكزهم أن يقوم على باب المركز أخ يسمى (مراقب الدار) مهمته حسن استقبال الذين يفدون من الزوار والإخوان وفوجئتُ أن الأخ القديم المكلف (أصيب في حادث حريق) وعنده بعض التشوهات ومع ذلك أرجعه الإخوان إلى مهمته فقلت للإخوة: إن هذا الأخ كلنا نحبه ولكن ليس هذا مكانه، فالرسول t كان يتخيرُ لمراسلاته من سفرائه من اجتمعت فيهم شروط معينة منها حسنُ السمتِ. وهذا رسولنا لكل قادم جديد، وإنه بقدر ما نحب بعضنا في الله، فعلينا أن نضع الرجل المناسب في المكان المناسب.




أي أخي:

في سيرة الرسول t علاماتٌ بارزة، قوية مؤثرة، كنت أقرأها في ماضي السنين فلم أكن أدركها كما أدركتها اليوم، لم أكن أتذوقها كما تذوقتها اليوم. لقد غبطت الصحابة الكرام كيف كانوا يعيشون في رحاب قلب الرسول t، لا شك أنهم كانوا سعداء فوق السعادة، حياتهم معه كلها أفراح، كلها نعيم – وإذا نحن قسنا ما نحسه نحو إخواننا بالذي كانوا يعيشون فيه أدركنا هذه الحقيقة. نحن على فقرنا وضعفنا سعداء فكيف الأولياء من الصحابة العظماء.

الرسالة السادسة
أي أخي:

أعترفُ بتقصيري البالغ نحوك، أشعر بالندم والحزن تجاهك، لا أدري كيف حدث هذا التقصير. مهما اعتذرت فإني نادم. مهما فعلت فإنني لا أستطيع القيام بحقوق الأخوة.
أخي: بالأخوة العظيمة نقتحم كل العقبات.. كل الصعوبات، كم لنا قصص فوق الخيال والمحال من الحب العجيب والتضحية والإيثار، فبحقي عليك ألا تستكبر عن الإعتراف بالخطأ لأخيك، وبحقي عليك أن تبذل جهداً لاستئناف مسيرة الإخاء، كلما تعكر الماء.

أي أخي:

الأيام بلا إخوان جد خسارة فإذا مات الإخاء في الله من قلوب الناس سيتوقف المد والمدد ويتعامل الناس بلا عواطف ولا مشاعر ولا شعور. انتَ الآن في خاطري (فرحةٌ كلما ذَكَرتُكَ) أنت في قلبي كالنور وفي روحي كالضياء فليكن لك إخوان كذلك.
(إنَّ المؤمنَ لينتفعُ برؤيةِ أخيه شهراً) هذا المعنى جميل والذي قاله كان يتذوقه تماماً لعلنا الآن نتذوقه جيداً.

أي أخي:

إن الحب في الله – قدرة.
قدرة على الإعتصام – قدرة على الثبات – قدرة على البقاء – قدرة على العفاف – قدرة على مواصلة الحب، ولن يتصل الحب إلا إذا كانت له مناسك وآداب. لهذا كان أدب الحب في الله كالنور كالماء كالهواء لهذا الحب.

أي أخي:

فجأة وجدت عاطفتي نائمة غير متأججة لا أدري ما السبب؟ أهو الجهد أو هو المرض أو هو الشيخوخة لا أعتقد فماذا يا ترى؟ الظروف التي أعيشها في هذه الأيام لها تكاليف كبيرة وأعباء كثيرة ولقد اعتدت على ذلك، لكني كنت دائماً أجد نبض القلوب وإشراقةَ العاطفة فيعطيني هذا مدداً وسعادة، إنك عندما لا تجد أخاً يعطيك هذا تشعر بالخمول. لا شك أن هذه المعاني والمشاعر موجودة لكن عليك أن تُشْعِرَ بها الآخرين، من ذا الذي يكشف الغطاء عن هذه الحقائق أو يفتح نوافذها او يطرق أبوابها.
إن الحياة بدونها تبقى بلا حركة قوية ولا باعث شديد.

أي أخي:

بادر بالتصرف الذي يقربك من إخوانك ويقربُ إخوانَكَ إليك، كُنتُ في جلسة فدخل أخ، أسرعت فأرسلتُ له كوبَ شاي. تَعَجَّّبَ أحد الإخوة وقال لي هل تعرفه؟ قلت: معرفة شخصية لا – ولكن معرفة إسلامية أعرفه جيداً. قال: ولماذا تقدم له كوب شاي وأنت لا تعرفه؟ قلت لأني أرغب في معرفته ورسولنا t يعلمنا الوسيلة "تهادوا تحابوا".
يا أخي (الدعوة حبٌّ) (ولا دعوة بغير حب) ولا يمكن أن يلتقي آلاف الإخوان برغبة ملحة صارخة يأتون من كل فجٍ عميق إلا إذا كان هناك رابط قوي ولا أقوى من رابطة الحبِّ. ولما كان الأمر كذلك فإنه لا يصلح لهذه الدعوة إلا من كان له قلب. والقلب هو مستودعُ الرحمات ومنبع الخير والنور، إنه الحب في الله الذي جمع الأبيض والأسود والشامي والمغربي، والرشيدي والهندي، والطالبَ والمدرس، ثم يتطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى سلامة الصدر، ثم الإيثار، ثم الفداء. ثم النظر إلى آلاف الشباب المسلم الواعي فانك لا ترى فيه من يدخن السيجار فضلاً عما سوى ذلك، ألا ترى أن أموال الدولة سوف تكون في حصنٍ أمينٍ بيد هؤلاء؟ ألا ترى أن أوقات الأمة وكرامتها ستكون موفورة على يد هؤلاء. فالحب في الله عاطفة وتربية وتكوين.

أي أخي:

بالحبِّ تُفتحُ القلوب، تصور أنّ ابتسامة واحدة بصدقٍ وإخلاص (تأتي بالعجائب) فكم من رجال في الإسلام دوخوا أعداءَ الله دخلوا الإسلامَ بابتسامةٍ واحدة. وهذا رسولنا العظيم t كم فتح قلوباً متحجرة بكلمةٍ طيبة ويدٍ حانية ودعاء في السحر (اللهم اهدِ قومي فانهم لا يعلمون) (مَن نظر إلى أخيه نظرة ودٍّ غفر الله له).

أي أخي:

كثيرون يقولون:
ماذا فعل الإسلاميون؟ يا سيدي الدعوة عملها في كل دقيقة وفي كل ميدان، ومع كل قلب (وحسن البنا شاهد على ذلك) ماذا فعلنا؟ لقد دعونا شعبنا بكل عواطف الحب والرحمة، إننا نحب شعبنا الإسلامي في كل مكان ولَنْ يُولِّدَ الحب إلا الحبَّ، ألا ترى أن هذا وحده كبير كبير في ميزان الأعمال.

الرسالة السابعة
أي أخي:

ذكرتَ أن عندك بعض التساؤلات وإنه ليسرني أن أدلي لك بكل ما عندي ولكن لا تنسَ كذلك أن صلتكَ بي وحدي لا تكفي، لأننا أمة كالجسد الواحد فأنا وأنت جزءان من جسد كبير.
إذا أجهدني العملُ أو أرهقتني القراءة أو أتعبتني المشاكل أو آلمتني الأحداث التي لا تنتهي أذهبُ إلى رحاب رسول الله t مُمَثلاً في سيرته وسنته أعيش فيه لحظات أستمدُ من رحيق نوره طاقةً ومن نسمات روحه قوة ومن آفاقه العلوية معنى، أتزود منه لهذا الطريق الطويل الشاق الذي هو طريق أهل الحق، طريق الإسلام الخالد العظيم، هذا الإسلام هو الذي قربني منك وقرَّبك مني، من هو الذي جمعَ بين قلبينا على البعد البعيد، من هو الذي حطَّم القيود والسدود فجمع بين الأبناء والجدود؟ إنه هذا الإسلام الذي به كان الحب أعظم غاية "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "إنما المؤمنون إخوة".
من الذي أعطانا هذه النعمةَ ورزقنا هذا الفضل، هو الله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً".

أخي:

بين يدي الله تعالى في محرابه المقدس، أبتهلُ إليه تعالى أن يعينني على كمال التعبير، وأستلهمه الإخلاصَ الذي هو سر من أسرار التوفيق الذي يسهل به الطريق إلى القلوب، قلوب من باتَّتْ أشواقنا تتطلعُ إليهم وأرواحنا تحلق حواليهم. حباً وإشفاقاً عليهم.. فلكم تئنُّ قلوبنا أسفاً لما بات عليه حالُ المسلمين: ومآلُ شبابهم الذين أسرفوا على أنفسهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

أخي الحبيب:

حين أكتب لك هذه الرسالة – فأنا أعنيك بشخصك – أعنيك باسمك فلا تظنني أكتبها لشخص وهمي لا أعرفه ولا يعرفني، فهي ليست خُطبةً ولا مقالة ليقرأها أو يسمعها عامة الناس، ولكنها رسالة وأمانة لشخص بعينه وقلبه وذاته، فأنا حين أستلهم معانيها، إنما أتصورك في ذهني حقيقة ناطقة أمامي، كأنني أتحدث إليك بصوت عال، أتصورك بعقلي وقلبي وإحساسي وعواطفي أغوص في أعماقك بتصوراتي وتخيلاتي حتى أهييء لنفسي مناخاً.. يهزني بالانفعال ويشعلني بالحركة ويلهمني بالمعنى...
والحق يقال إن تعارفنا هذا تعارفٌ على عقيدة قديمة قدم الحياة لها رصيد مكين من فطرةِ كل إنسان... تحسه من أعماقك وتستشعره في ضميرك.
إن عقيدة الإسلام جامعة فأنا إنما أخاطب هذه العقيدة فيكَ – أنا لا أخاطب صورة الإنسان ولا شكله. أنا أخاطبُ قلبه ووجدانه وعاطفته.

أخي الحبيب:

إن أعظم ما أبتغيه وأنشده وأسعى إليه وأقصده هو أن أراك قد وضعت يدك على قلبك وأصابعكَ على رأسك استدراكاً لما فات من أمرك واستهلالاً لما باتَ متوقعاً من شأنك، أن أراك قد اضطرمَتْ جوانبكَ واشتعلتْ خواطرك وتأرَّقَ نومُكَ وازدحمت الأفكار في رأسك وبدأت عواملُ الحياة الحقة تدبُّ في أوصالك وتهزُّ كيانك كله، فتذوَّق القبح والجمال وتفصل بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وتتذوَّقَ حلاوة الإيمان ومرارة العصيان، وتشعر بشعور الناس من حولك فتتألم لألمهم وتفرح لفرحهم وتشارك المسلمين أينما كانوا فيما هم فيه فتهتم بشؤونهم وتناقشَ قضاياهم وتعرف أحوالهم.

أخي الحبيب:

إن أجمل ما يتحدث به الأخ لأخيه هو المصارحة أي المكاشفة وهي أسمى ما يكون بين الأخوين من درجات المحبة وأنقى ما يكون بينهم من صفاء الود، والمصارحة هي لبُّ الأخوة ودعامة الثقة، فالمكاشفة لا تكون إلاّ بين قلبين اتبطا على الله بسر الأمانة والإيمان وبعاطفة الطهر والكرامة، وبعهد الله الذي لا ينفصم ولا ينقطع لأن الله تعالى حيٌ لا يموت أبداً.. وأراني حين أتحدث بكل صراحة ووضوح أكون أكثر انشراحاً وانطلاقاً، وأعمق توضيحاً وأسلسَ في التعبير وأيسر في الوصول، إذ لا يتعثر لساني خوفاً من كلمة خفية أكتمها أو معنى أخشى أن يكشف عن مكنون لا أرضاه، فالحديث من القلب يصل دائماً إلى القلب. فالقلوب المؤمنة تفقه بلغة أدق وأعمق، وأكثر أحاديث القلوب النابضة بالحب في الله تعالى تكون في صمت.. في خشوع.. في دعاء.. في مناجاة.. أن يفتحِ الله تعالى قلبَ أخي لقلبي، أن يفهم ما أفهم، أن يعتقدَ مثلَ اعتقادي، أن يضع يده في يدي لتقوى الكتيبةُ وترتفعَ راية الإسلام.
وليست المكاشفة التي أريد يا أخي هي أن أكشفْ لك عن مشاكلي الشخصية أو متاعبي النفسية وإنْ كانت هذه أولى درجات هذا المرتقى التي يتم عبرها تعارف وتآلف.
إنما المكاشفة التي أريدها هي مكاشفة الآلام والآمال التي تترقبها الدعوة الإسلامية.

أخي:

لقد سبق لي أن عدت من محنة الإخوان المسلمون عام 1954 إلى بلدي رشيد بعد أن قضيت في السجن عامين، عدت لأجد الناس في وجوم، في خوف شديد وحذرٍ أشد. إنَّ الذين استقبلوني ورحبوا بي في هذه المحنة الشديدة عدد قليل وهذا القليل رَحَّبَ بي على استحياء بل لقد كنت أسمع من بعض الناسِ غمزاً ولمزاً واستهزاء، وكانت الأيام تمضي في حزن وكآبة، إذ القلوب مظلمة والأرواح كئيبة ولم يكن خوفي على نفسي بأشدَّ من خوفي على مَنْ حولي ولم يكن حزني على ظروفي بأقسى من حزني على ضعف الناس وجبنهم، لقد عدت من هذه المحنة على ثقة من عقيدتي وعلى يقين من الله الذي أومنُ به. فلم أشأ أن أخلد إلى الأرض أو أتشبث بها، لم أتراجع قيد أنملة عن إيماني وعقيدتي التي كانت (الغذاء والعزاء)، ورفضت من أعماقي أن أستكين، أو ألين، فلم أنْزَوِ أو أنطَوِ ولم أعرف التراخي أو التناسي بل أججَّتني الأحداث وجددتُ البيعة مع الله على الجهاد ما حييت أبداً.. الجهاد في سبيل الإسلام العظيم.
كنت مشوقاً إلى قلوب تتعاطف معي ودموع تنهمر مع دموعي، وأنفاسٍ تحترق مع أنفاسي كنت أتطلع في حرص وشوق إلى عقلٍ.. إلى قلبٍ.. إلى روح تفهمني عن قرب. عن فهم عميق لروح هذه الدعوة، ومنهاجها وأهدافها. كنت أحترق في بطء حين أراني وحيدأ في هذا الميدان أتطلع إلى هذا الأمل وأتحسس طريقي إليه في هدوء وصبر وحكمة، كنت أنظر إلى هذا الشباب التائه في صحراء الوجود السائح في الشكوك والظنون نظرة الحب والإشفاق والحنين، أريد أن أتحدث إليهم بكل خواطري وكل إحساساتي، كان تقربي منهم يزيدهم إمعاناً في البعد عني خوفاً على أنفسهم من عاقبة أمري.
وفي هذا الجو الخائف، والمناخ الخانق فتحتُ طريقي في صبر وحزن وألم، ولكنَّه الألمُ العبقري الذي يفجر ينابيع الطاقة ويحطم أسوار اليأس يفك قيود الحرية ويوسِّعُ حدود العمل والأمل، وكان ما كان مما عرفتموه عن محنة 1965، وجدَّدتِ الدعوةُ الإسلامية شبابها وانطلقت من عقالها وتمردت على أعدائها فقهرت بإيمانها صرح الظلم "الذين قال لهمُ الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيمٍ".
وانتصر بفضل الله الإيمان الأعزل على القوة الغاشمة، لأن الإيمان هو أعظم القوى في الوجود.
وقضى الله تعالى أن أقضي في السجن تسع سنوات في رحاب الله، وكانت وستبقى حافزاً وداعياً إلى العمل الجاد المتواصل في سبيل الله، ولست هنا بصدد الحديث عن أحداث هذه المحنة ولست في سعة من الوقت كي أسجل تاريخاً حافلاً بالأمجاد والبطولات، لا أقول الفردية أو الشخصية ولكن أقول (الإسلامية) وسيأتي ذلك اليوم الذي تخشع فيه القلوب لعظمة هذه الرسالة التي أشرق بنورها هذا الجيل.
وشاء الله تعالى ولا رادَّ لمشيئته أن أعود إلى رشيد بلدي الحبيب، أعود مرَّة أخرى بعد هذا الغياب الطويل المرير أعود، ولكني أجدُ أمامي صورة أخرى.. مشاهد فريدة وعواطف أكيدة صورة رائعة فيها العزاء كل العزاء، وفيها الوفاء كل الوفاء، عيونٌ صادقة النظراتِ وأحاديث صادقة النرات، وفهمٌُ للإسلام جديد، ووعي واهتمام وحماس.
كانت تلك هي المشاعر التي أحسستها، وهذه الوجوه الكريمة التي استقبلتها شيء آخر غير الذي كان عام 1956 – فرقٌ كبير بين المشهدين – مشاهد حية نابضة بالإيمان آنستُ فيها راحةً وسعادة فما سر هذا المشهد الجديد وهذا التغيير وما دلالاته وماذا سيكون من بعده؟؟
أمّا سر المشهد الجديد.. فلا يعود إلى فضل إنسان من الناس ولا لفضل جماعة ترى لنفسها الفضل في ذلك.. إنما يعود الفضل أولاً وأخيراً إلى طبيعة هذا الدين (هذا الإسلام) إلى سنَّة الله تعالى التي تجري على البلاد والعباد "ولن تجد لسنة الله بتديلا" إلى تجرد أشخاص وفنائهم في دعوتهم وصبرهم على الايذاء وصمودهم أمام الأعداء، وكان هذا الخير الذي شاع وهذا النور الذي انبثق وذاع أثراً عن هذا كله، وصدق الله "لتلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا اذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور".
ليس في جهاد الإخوان المسلمون منّةُ على أحد ولا عندهم رغبة في مغنم أو مظهر كما أنهم لا يمنون بتضحياتهم على الناس ذلك لأنهم يوقنون بأن عليهم بأن عليهم أن يقدموا الدمَ والمال في سبيل الله "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة". "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين".

أخي في الله:

إنّ الإرتفاع إلى قمة المعاني الإسلامية والمثل والقيم السامية هو رصيد الإسلام على مدار التاريخ، فنحن لا نذكر من عظمة المسلمين ما اندثر من آثار الحضارة في العمران بقدر ما نفتخر ونعتز بما خلَّفَهُ لنا المسلمون العظماء من مفاخر القدوة، لقد كان أعظم منجزات هذا الدين تكوين شخصية المسلم...

أي أخي:

لقد عشنا أياماً وسنين استيأس عامةُ الناس من أن يجدوا للمثل الإسلامية سوقاً، بل لقد كان من الصعب أن يتصور الناس أنه من الممكن أن تتحقق المثل الإسلامية العظيمة وكأنها كانت وقفاً على الجيل الفريد جيل أصحاب رسول الله t، وحين سار هذا الشعور بين الشباب واستيأسوا من الإصلاح استمرأوا حياة الفجور والمجون وأغلقوا آذانهم عن كل صيحة وولوا وجوههم وأصروا واستكبروا استكباراً.. فكان لا بد إزاء هذا الخطر الزاحف على عقيدة المسلم وبلاد المسلمين من طليعةٍ مؤمنة تعزمُ عزمة أكيدة أن تخرقَ هذا الظلام وتبدده وتقتحم هذه الغيوم وتحطم هذه الأكذوبة وتُبْطِلَ هذا السحر وتقاوم هذا المخطط الرهيب.
كان لا بد من عمل يزيلُ زيفَ الباطل ويكشف أباطيل أعداء الدعوة الإسلامية.. كان لا بد من بعثٍ إسلامي حقيقي يبطل السحر ويكشف المكر ويبدد الظلام. لتندفع الدعوة الإسلامية بقوة وعزم ويقين لا يشوبه خوف ولا ينقصه وعي أو فهم أو إصرار وقد كان ذلك، ولكن لا بد من متابعة الطريق: فيا ربِّ بلغ شعوري وأحاسيسي وحرارة أنفاسي إلى كل مسلم.

أي أخي:

دعوتنا رسالةُ أنارةٍ لا إثارة.. إنها رسالة حضارة "ولكنها حضارة اليوم الآخر" رسالة إيقاظٍ للضمائر وإشعال للعزائم.. رسالة صحوة للقلوب والمشاعر.. رسالةُ حياةٍ ما أسمى معانيها وأرقى مناهجها وبرامجها ومراميها.
"ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وَلِيٌّ حميمٌ".

أخي:

قد تظن أن هذا البناء الشامخَ لهذه الدعوة قد تمَّ في يوم وليلة، وأن هذا التجديد في الفكر الإسلامي، وهذا الشعور الذي يفيض حباً للإسلام وحنيناً إلى مجد المسلمين، قد تظن أن هذا كله قد ولد معك وجاء مع مطلعك، فتخطئ في تقدير الأمور وترتيب الخطوات وتقدير المسافات، لذلك أنصحك وأنصحُ كل منتسبٍ للدعوة الإسلامية ولهذه الجماعة أن تعود إلى تاريخها منذ نشأتها لتفهم منهجها وتدرس الظروف التي أحاطت بها والتي نشأت عليها والأوضاع السياسية والإجتماعية، كذا الخطوت والوسائل التي اعتمدتْ عليها في تحقيق أهدافها والمشروعات الإقتصادية والثقافية والإجتماعية التي حققتها ثم الخصومات والمحن التي ابتليت بها مع الإحاطة بتاريخ الإستعمار وأساليبه وتخطيطه العنيد في حرب الإسلام في كل عصر ومصر. فذلك يجعلكَ على الجادةِ أن تعرف صورة الدعوة الإسلامية وحقيقة حال المسلمين يوم بدأت هذه الدعوة عام 1928 بمدينة الإسماعيلية لتستطيع أن توازن فتدرك بعمق ووعي قيمة الجهد والمعاناة وقيمة الصبر وقيمة التخطيط الذي تم لتغيير حال هذه الأمة الحيرى التي كانت على مفترق الطرق من أجل العودة بها إلى ساحة الإسلام تحت راية القرآن.


الرسالة الثامنة
أي أخي:

إنكَ والإخوة الذين رزقني الله تعالى حبهم لا تغيبون عن عقلي وفكري، فالحياة دون هذا الشعور ميتةٌ قاتلة، ورغم أنه شعورٌ وإحساس إلا أنه مبعث للسعادة وراحة للنفس، وأنا حين أقول ذلك إنما أكرر معنى لا يغيب صداه من نفوسكم. فقد وهبنا الله تعالى من فضله أعظم مصادر الاستشعار على البعد والقرب بما لا يتصوره هؤلاء الذين غابوا عن هذا المحيط الهادئ والمجتمع الرباني. ومن لطائف هذا الشعور أن الإنسان يستطيع أن يغمض عينيه على قصة أو خاطرة أو معنى عاش فيه يوماً مع إخوانه فيتذكر أعظم ساعات السعادة: قلوباً صافية وأنفاسا طاهرة ومشاعر صادقة.
ولهذا كثيراً ما يفر الأخ إلى قلب أخيه حين يصطدم بواقع هذه الحياة وجاهليتها، ومن هنا ينبغي علينا وبكل جهدنا أن ننمي هذه المعاني بالمحاسبة والتفقد، بالحب والحدب والرعاية، وحذار أن نخدش هذه الطهارة، بالغيبة والنميمة، أو بالحسد والغيرة ورسولنا t يقول لنا: فيما يقول: "لِينُوا في أيدي إخوانكم"، "تطاوعا ولا تختلفا" والله تعالى يحذرنا حين يقول لرسوله t: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك". "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين".

أي أخي:

أودعكم وقلبي يكاد يقفز ليبقى معكم. ولكن تلك سُنَّةُ الله تعالى في خلقه. كنت أتناول معكم غذاء من طعام، والحقيقةُ أن غذائي كان من تصورات أخرى وخواطر أخرى وكنت أعيش في سماء من السعادة والهناء، كنت أنظر إلى الإخوة بقلبي وأمتص من رحيق قلوبهم حياة لهذا القلب، ولو نطق القلب والوجدان لكان الأمر فوق الخيال.
وذهبت إلى محيط آخر، سافرت والتقيت بالأرواح وعشت أياماً وليالي أغوصُ في الأعماق بكل معاني الحب والأشواق، وتتكرر المعاني والإلهامات، فالصورة واحدة لأن المنبع واحد والغاية واحدة والحقيقة أيضاً واحدة، إنها الدعوة الإسلامية التي تفجر هذه الينابيع الصافية بفضل من الله تعالى ورحمة، فتصنع الرجال وتبني الأجيال.

الرسالة التاسعة
أي أخي:

أريدك روحاً تلهب الحماس وتقوي الإحساس وتنعش الفكر ليبقى دائماً في تألق، حيٍّ مشرقٍ وضيء، فالعواطف هي النسمة الباردة في يوم شديد الحرارة، ألا ترى كيف يتلمسُ الناسُ في مثل ذلك اليوم سحابةً أو ظلّ شجرة فَكُنْ أنتَ السحابة والشجرة للعاني المكدود المتعب من هدير أمواج الحياة، ولكن اعلم أنك لن تكون كذلك إلا بعد ركعاتٍ خاشعة وتلاوةٍ للقرآن الكريم حزينة ترققُ القلبَ وتهدهد النفس، عندئذ تكون روضةً للقلوبِ تحنو عليها وتمسح دموعها. ليست كل العواطف مقبولةً أو مأمونةَ العواقب فأحياناً تكون (العواطف عواصف) لا يلجمها عقل ولا يلزمها شرع، لهذا كان لا بد للعواطف من ميزان الإيمان ليبقى الحب ويسمو ويحيا نظيفاً تلقى به الله تعالى:
"إخواناً على سررٍ متقابلين" يا لها من أمنية تلاحق الخيال – على سررٍ متقابلين، هل تذوقتَ، هل ذرفتَ من عينيك الدموعَ لهذه الفرحة الكبرى، وفي الجانب الآخر عافانا الله "الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌُ إلا المتقين".

أي أخي:

إني أخاطبُ فيك رجلاً والرجال قليل، أملاً أرسمُهُ في خيالي أنشده لدعوتي، أنشده لعقيدتي وديني، أنشده لمستقبل هذا الدين، تقولُ حفظك الله (لقد زرعتَ في قلبي مشاعر غمرت روحي فأحييتها بعد موتها وأنعشتها من بعد ركودها، هذه المشاعر أضاءتْ ليلَ هذا القلبِ بنورها وأطفأت ناره ببردها.. فأخذ ينبض بأحاسيس عفّة صادقة ويحس بخلجاتٍ طاهرة عذبة)، إذا كنت قد وصلتَ بفضل الله تعالى إلى مثل هذا أكون قد نجحت معك، وها أنا ذا أدعو الله لك أن يبارك هذا الإيمان وتلك النفحات، وأن يزيدك من فضله، وأن يجعلك نبراساً لتلك القلوب التي تحبك.



أي أخي:

قلتُ لفتىً من الإخوان: هل أنت تحب الإخوان؟ قال نعم. قلتُ له: ولماذا تحبهم؟ قال بمنطق الفطرة لأنهم يحبونني!! صدِّقني أني ذُهلتُ، لأني كنت أبحث عن هذا المعنى الخطير.. أو قل كان هذا المعنى يحوم في خاطري أو يتراءى لي كالطيف، لقد قال كلمة واحدة ولكنها تحل المشكلات، فهناك ناسٌُ لا يقدمون للآخرين الحب ويريدون أن يُحَبُّوا، فافطنْ أخي لهذا، فإذا أنت سبقتَ الناس بالحب والإيناس والرحمة والمرحمة فإنهم لا بد أن ينجذبوا إليك ويحاولوا أن يقتربوا منك لأن نفسَ الإنسان مفطورة على أن تحبّ من يحسنُ إليها ولو بالابتسامة والكلمة الطيبة والسؤال عنها، فالإنسان له قلب يتمنى أن يحبه الناس بل إنّ بعض الظرفاء يصنعون بعض المواقف حتى يحبهمُ الناسُ، نحن لا نتكلف ذلك، وإنما هي رسالة الدعوة، ولهذا لا بد أن تكون تصرفاتنا نابعةً من أخلاق رسولنا وتعاليم ديننا، كم من قلوب مهيأة للسير في مواكب هذه الدعوة ولكننا عنها غافلون، وهذا رسولنا t ينادينا (بَلِّغوا عني ولو آية. لعل مُبَلِّغ أوعى من سامعٍ).


الرسالة العاشرة
أي أخي:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله t يقول: إنَّ من عبادِ الله أناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياءُ والشهداء لمكانتهم عند الله. قيل: تخبرنا يا رسول الله من هم وما أعمالهم فعلَّنا نحبهم؟ قال: أولئكَ قومٌ تحابوا بروح من الله على غير أرحامٍ تربطهم ولا أموالٍ يتعاطونها فوالله إنهم لعلى نور وإنهم نور لا يخافون إذا خافَ الناسُ ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون". أو كما قال عليه السلام. أعتقد أنك قد تخطيت كثيراً من الحواجز في الدعوة إلى الله تعالى وتمكنتَ من وسائل جديدة في الوصول إلى القلوب وأصبح لك من الأسلوب الواعي الحكيم ما يعطيك القدرةَ على جذب أكبر عدد من القلوب، والأسلوب القرآني الحكيم يقول لنا:
"وقولوا للناس حُسناً"، "ولو كنت فظاً غليظ القلبِ لانفضوا من حولك" ورسول الله t يقول: (أقربكم مني مجالسَ يومَ القيامةِ أحاسِنكُم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون) فأنت بفضل الله تعالى تملكُ الكثير، وأملي أن يكون رصيدك من القلوب قد نما وزاد والله معك واعلم أنّ أعظمَ متعة في هذه الدنيا أن تحقق قول رسولنا t (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها) ولعلك قد جربت ذلك.
لو أنّ إنساناً ملك القصور وله من المال مالُ قارون ثم لم يجدْ من يحبه فما أتعسَهُ، أما نحن على فقرنا وقلة حيلتنا مع الناس فليس في هذه الدنيا مَنْ هو أسعدُ منا فنحن أغنياء بهذه القلوب وتلك المشاعر ولله المنة والفضل.
واعلمْ أن الطريق يحتاج إلى الصبر الجميل، فمن لم يقتنع اليوم فسوف يقتنع غداً، لو استطعنا أن نعرف ظروف كل مسلم وأن نَصْدُقَ التوجه إلى الله تعالى فيه، أنْ يشرحَ الله صدره للدعوة وتلك مهمةُ الداعية الموهوب الذي يشتعل قلبه للإسلام ليلَ نهار وهو لن يفقد من وقته شيئاً إذا أحسن استعمال ما وهبه الله تعالى من قوة في الإرادة ودقةٍ في الإحساس ورقةٍ في الشعور ووجه طَلْقٍ صَبُوحٍ ونفس نقية متواضعة وتطلعٍ بالإشفاق والدعاء أن يشرح الله القلوب لدعوته.
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ". تدبر هذه الآية الكريمة وعِشْ في رحابها باركَ الله فيك.
أما المزاح المباح فإنّ له هدفاً وغاية قد يكون مطلوباً أحياناً لنجذب به قلباً، والعبرة بعد ذلك بالأثر والنتيجة، واحذر أثناء المزاح من كلمة قد تبتعد بك كثيراً عما تريد، حَصِّنْ نفسك بروح الإسلام فليس المسلم ذلك العبوسُ الكئيب.. ولكنه الإنسان الذي يزينه الحياء ويتلألأ وجهه بنور الإيمان.

أي إخواني:

الحياة والسعادة تنبعُ من قلوبكم أنتم ويجب أن ترتفعوا إلى مستوى العمل، وهذا هو الأساس الذي نبني عليه الجماعة، وهذا المشوار هو أصعبها وأشقها ولكنه مع هذا كله هو مشرق النور ومطلع الفجر، "فاصبر إنّ وعد الله حقٌ".
كم للحب من نفخاتٍ حتى في أحضان الحزن والملمَّات لأن الحب ليس لنا فيه خيارٌ فهو للسراء والضراء سواء، الحقيقة بعيدة عن الناس لأنهم لا يعلمون ولا يتذوقون، فأنّى لهم هذا النور، فنحن نعيش مع القلوب في صحوة وانتباه فالحياة لا قيمة لها إلا بالمشاعر، فليس في الحياة إلا الأخوة والحب والعمل والجهاد. والأمور تجري بالمقادير.

قُصارى العيشِ أن يمضي إنْ حُلواً وإنْ مُرّاً
فإن شئتَ فعشْ عبداً وإن شئتَ فعش حرّاً

علينا أن نملأ كل فراغ ونسعى إلى كل قلب بأمل مشرق عسى الله أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، فكم من قلوبٍ في قائمة الإنتظار تترقَب.

أي أخي:

استقبلتُ رسالتك، أسرعت ألتهمُ معانيها وما فيها بشوقٍ ونهم، فالبعيد بحاجة إلى كل جديد، أنتقل من كلمة إلى أخرى كما ينتقل العصفور من فنن إلى فنن ومن زهرة إلى زهرة، لا أكاد أنتقل حتى أعود لأستزيد، فالعطش شديد.
خطابك الكريم بين يدي، استلهمته ما بين السطور، يكاد الخطابُ ينطق، فالكلمات تتحرك تقول ما أسمعه بقلبي وأستشفه بروحي ويهز مشاعري وإحساسي.. من أين جئتَ بهذا الأسلوب وتلك المعاني؟
كيف صُغْتَ تلك الكلمات وأُلهمت تلك العبارات؟ صدقني أنا لا أجاملكَ، بل أحذر من ذلك ولكني أريد أن أقول إنه القلب الذي يفقه، القلب الذي ينبض، القلب الذي ينطق (أفلا تعقلون).
القلب هو الحياة، فاحرصْ على قلبك، حافظ على سر وجودك احذر (الرَّان) فإنه العازلُ بين النور والظلام، وما أحلى النور "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" القلب يا أخي هو الذي يتسع وينفسخ كالضياء والهواء لولاه ما كتبت ولا انطلقت ولا تساميت ولا عرفت ولا تعارفت. الدعوةُ حبٌ (لَنْ تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تَحابُّوا) والحب دعوة: (ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم).
علينا أن نزكي قلوبنا حتى يهبها الله تعالى القدرة على التأثير والإستجابة والقدرة هنا هي:
تقوى الله تعالى في السر والعلن "واتقوا الله ويُعَلِّمكمُ الله".
ما أحوج قلوبَ إخواننا إلى من يدق عليها ليوقظها. ما أحوج إخوانك إلى نظرة حانية وبسمة مؤمنة وكلمة تؤنس حياتهم الموحشة، حزني أنني لا أستطيع أن أعود شاباً أجول وأسبح وأغوص في هذه البساتين وتلك البحار فأستخرج منها اللآليء والدرر، لهذا فإني أتطلع إلى مثلك من شبابنا المؤمن ليسرعوا الخطى ويسابقوا الزمن فان أعداء هذا الإسلام لا ينامون، وأسلوبهم كما تعرف يدمر الأخلاق، وكلما قصرنا في الواجب طال بنا البؤس والشقاء، وحل ببلادنا الإسلامية البوار والدمار.

أي أخي:

لا زلتُ مع خطابك الرائع، وسأظلُّ معه، لا تَتَّسِع هذه الرسالة كي أحوم حول زهوره وأتنسَّمَ أريجه سأعود إلى أولها تقول: (أبي ومعلمي) لو لم تقلْ إلا هذا لكفاني سعادةً وشرفاً (أبي) إني حقيقة من السعداء وليس كل هذا إلا بفضل هذه الدعوة العظيمة (فنحنُ بالدعوة كل شيء وبغير الدعوة لا شيء) (أمَّا معلمي) فهذه فيها كلام، أقبله باعتباري أكبر منكَ سناً، أما غير ذلك فاني أحب أن أهمس في أذنك، هل يمكن أن يكون هناك معلمٌ بلا تلاميذ؟ إذن فالتلميذ هو الأساس بالنسبة لوجود المعلم، وإن كان لا معلمَ بلا تلاميذ ولا تلاميذ بلا معلم والقاعدة عندنا أننا كلنا إخوان يحبُّ بعضنا بعضاً ويخدمُ بعضنا بعضاً وتلك من أعظم سمات دعوة الإخوان، وعلى كل الأحوال فأنا أقبلها في النهاية لانها من مظاهر الأدب الذي صنعته هذه الدعوة في أبنائها.
(أبي ومعلمي) هل كنت أستطيعُ أن أسمعها منكَ قبل أن نتعارف. طبعاً: لا، إذن هناك الكثير من المعادن الغالية مدفونة أو مستحيية أو خجولة، تحتاجُ إلى قلبٍ أو يد تبحث عنها لذلك أقول لك وأنا أتهيأ للأفول وقد حطَّمني الذبولُ:
ماذا فعلتَ وماذا أنتجتَ، هل قرأت جديداً أو عملت عملاً مفيداً أو عرفتَ من شبابنا جديداً.. تترقبهم في الصباح بتحية صافية رقيقة يشع منها صدق الحب والود وتتلهف في وداعهم واستقبالهم. هل خطوتَ في ذلك خطوات، أتمنى أن تكون قد وُفِّقْتَ.
أكتبُ كلَّ يوم عدة خطابات أبوح فيها بكل نفسي لمن أحب حتى أستريح، وكثيراً ما تكون رسائلي حزينة لِفَرْطِ ما أعيشُ من ألم.
الألم والحزن حياةٌ وسعادة، فالعينُ التي تدمع هي العين التي تجكع، والقلب الذي يتذوَّقُ الخير والنفس التي تحب وتبغض في الله، تلك وسائلُ المسلم في درب هذه الحياة حتى لا يضيعَ ولا يميع ولا يتسرب إليه الضعف والهوان.
لقد عرفتُ الحزنَ أكثر مما عرفت الفرح، فالذي يعيش فيه المسلمون اليوم ومن قبل لا يمنحُ الانسانَ الابتسامةَ، ولا يعطيه فرصة للراحة والاستقرار، وجيلنا نحن أكثر الأجيال عذاباً واحتراقاً، ولا تعجب إذا قلت لك إننا في حزن عميق لأننا كنا نتمنى أن نودّع هذه الدنيا ونلقى الله تعالى وقد تركنا من ورائنا ما نقدمه شفاعةً لنا بين يدي ربنا ومع كل هذا الشعور الذي يعيش في ضمائرنا فإننا على إيمانٍ وثقة أن جيلكم المجيد هو العزاءُ وهو الأمل، ورسائلي هذه وصية أن تعيشَ للإسلام وأن تحيا به وأن تجاهدَ في سبيله، وتذكر هذه الكلمات فلا تُلهينَّكَ عنها مطامعُ الحياة وزخرف الدنيا، وحسبك أنها وصية أخٍ يحبك ويأمل أن تكون على هذا الدرب صادقَ العهد والوعد حتى إذا التقينا في رحاب الله تعالى فلعلَّ أحدنا يشفعُ للآخر. حسبي أن قد وضعتُ بين يديك أمنيتي فيك فارتفعْ إلى مستوى هذا الأمل ليحققَ الله بكَ وبإخوانك الخيرَ للإسلام والمسلمين.
إن طريق الدعوات ليس كلاماً ولا شعاراتٍ ولا هتافات ولا مظاهرات. يجب أن ندرك من واقع التجارب السابقة الصادقة احتمالاتِ الخداع في هذه المظاهر الخارجية وهذا الحماس وهذا الإنفعال، الخيرُ في الصبر والمعاناة (فكثير من الناس يستطيعون أن يتخيلوا وقليلٌ من هؤلاء مَنْ يستطيعون أن يعملوا، وقليلٌ من العاملين من يستطيعون أن يجاهدوا، وقليل من المجاهدين من يستطيعون أن يصبروا، وقليل من الصابرين من يستطيعون أن يصلوا).
يجب أن يدرك الداعية المسلم أنه من السهولة أن يسمعَ لهُ الناسُ، ولكن من الصعوبة بمكان أن يعمل معه هؤلاء الناس، لأن الإستماع أمرٌُ مُحَبَّبٌ إلى النفس، كما أنه من الممكن أن يدفع لك الناس اشتراكاً مادياً، ولكن من الصعوبة أن يشترك معك الناس في قول الحق، فالتكاليف والأعباء وضبط السلوك على تعاليم الإسلام هي محور الإيمان والإعتقاد والإنطلاق، ولن يتحقق هذا السلوك بمجرد البلاغ ولكن لا بد من عوامل الزمن والإستعانة بالسنن الربانية في التربية والتكوين. وشعارنا في ذلك (الزمنُ جزءٌ من العلاج) (والصبر على منهاج هذه الدعوة وخطواتها هو عينُ الجهاد والكفاح) (والمتقدمُ عن الصفِّ كالمتأخر عنه سواءٌ بسواء).
حين تدقق بهذا المعنى وتتذوقه وتعيش معه تشعر بثقل المهمة وضخامة الرسالة.

أخي الحبيب:

أريد أن تُوقِنَ أن دعوتنا إسلامية صحيحة ومهمتنا في هذه الظروف ليست إثارة النفوس وتَصَيُّدَ الأخطاء وتجريح الأشخاص والهيئات، فنحن أبعد الناس عن ذلك، بل إنّ ذلك يعوق مهمتنا الأساسية وينشئ خصومات لسنا في حاجةٍ إليها لأن مهمتنا (نجمعُ ولا نفرق. نبني ولا نهدمُ. نتعاونُ فيما اتفقنا عليه ويعذرُ بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).
مهمتنا في هذه المرحلة إنارةُ العقول وتزكية النفوس والارتقاء وبعواطف الناس ومشاعرهم ونقلهم إلى الصالح المفيد، والتعاون على تكوين الشخصية المسلمة التي هي قاعدة بناء المجتمع المسلم.
(وإذا وُجِدَ المؤمنُ بحقٍ وُجِدَتْ معه أساليبُ النجاح جميعاً). نحس من أعماقنا بضرورة إنقاذ هذه الأمة من غفلتها وتنبيهها إلى ما يتهددها من أخطار وما يتربص بها من أعداء.
إن هذا الشباب بحاجة إلى قلوب كبيرة تعينه على الخروج من هذا المحيط الآسن إلى المحيط الهادئ، ومن البحر الأسود إلى البحر الأبيض في حاجة إلى عاطفةٍ طاهرة يستعذبُ حلاوتَهَا ويتذوق شَهْدَهَا ويأنسُ إليها ويستأنس بها، وليس إلا الإسلام أولاً وأخيراً فهو الواحة الظليلة والمرفأ الأمين والشريعة العادلة والدين القيم "ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".

أخي الحبيب:

لقد كتبت هذه الرسالة بشعور يفيض بالإخلاص والحب العميق راجياً من الله تعالى أن يجعلني وإياكَ من أهل هذا المقام "فآتاهُمُ الله ثوابَ الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين".

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[/align]
التوقيع:
تعصي الإله وأن تظهر حبه*** هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعتـه*** إن المحب لمن يحب مطيع
من عرف المحبة عن يقين*** محال أن يميـل إلى فراق
وكيف أحب غير الله يوما *** وليس سواه في الأكوان باق
فلـو أنا إذا متنـا تركنـا *** لكان الموت راحـة كل حي
ولكنـا إذا متنـا بعثنـا *** ونسأل یومذا عن كل شي
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لدعوة إلى الله حب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع